
الأمومة ليست مجرّد فطرة، بل هي تجربة متكاملة من التغيّرات والتحدّيات التي تحتاج إلى دعم، ومساندة حقيقية. ومهما كانت الأم قوية، فإن هذا لا يعني أنها لا تحتاج إلى المساعدة، بل يعني أنها تحتاج إلى من يدعمها وبقوة.
فالولادة ليست مجرّد لحظة وتنتهي بولادة طفل، بل هي بداية رحلة طويلة من التغييرات العميقة التي تمرّ بها الأم، على جميع المستويات الجسدية، والنفسية، والعاطفية، والاجتماعية. وعلى الرغم من أن كثيرين يرون أن الأم «تعافت» بعد أسابيع قليلة من الولادة، إلا أن الحقيقة أكثر تعقيداً، إذ تحتاج المرأة إلى وقت طويل لاستعادة توازنها، قد يمتد إلى سنوات.
تمرّ العلاقات الزوجية خلال هذه الفترة بأصعب اختباراتها. ليس لأن الأم تمرّ بتغيّرات كبيرة فقط، ولكن لأن الأب أيضاً قد يواجه صعوبة في فهم هذه التحولات. فأحياناً يشعر الزوج بالإهمال لأن الزوجة تكرّس معظم وقتها للطفل، بينما تشعر الأم بأنها غير مدعومة بالقدر الكافي. ويمكن للزوج أن يكون شريكاً فعالاً في هذه المرحلة الهامة، ما يساعد على تحسين الصحة النفسية والجسدية للأم، ويعزز العلاقة الزوجية، في الوقت نفسه.
سألت «كل الأسرة» عدداً من أساتذة الطب النفسي، وخبراء العلاقات الزوجية، حول أبرز الأسباب التي تؤدي إلى كآبة ما بعد الولادة، وكيف يمكن للزوج أن يدعم زوجته، ويعتني بها حتى تتعافى سريعاً، وما هي الخطة الأمثل للتعامل مع التحديات النفسية التي تواجه العلاقة الزوجية، ونفسية الأم خلال هذه المرحلة.

أعراض بعد الولادة قد تكون خطرة.. لا تتجاهلها
تشير الدراسات إلى أن واحدة من كل خمس نساء تعاني مضاعفات صحية نفسية، خلال فترة ما بعد الولادة، ولعل أصعب هذه التحدّيات التي تواجهها الأم بعد الولادة هو الشعور بأنها فقدت جزءاً من هويتها. فبينما كانت قبل الإنجاب شخصاً مستقلاً، بأحلامه وطموحاته، تجد نفسها فجأة محاصرة بين مسؤوليات لا تنتهي. قد تشعر بأنها أصبحت فقط «أمّا»، وأن شخصيتها السابقة بدأت تتلاشى.
وفي هذا الإطار، يؤكد الدكتور ياسر عبد الرازق، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة عين شمس، أن مرحلة ما بعد الولادة تُعد مدة حرجة في حياة كل امرأة، حيث تتغير فيها التوازنات الهرمونية، والجسدية، والنفسية، بشكل كبير. وبينما يزداد تركيز العائلة على المولود الجديد، غالباً ما تُهمل احتياجات الأم، العاطفية والنفسية. وهذا الاضطراب المزاجي يحدث بعد أسبوعين من ولادة الطفل، ويمكن أن يظهر أثناء الحمل، ولكن لا يعدّ هنا اكتئاب بعد الولادة، إلا إذا استمر بعد الولادة، ويؤثر هذا الاضطراب، بشكل ملحوظ، في علاقة الأم بالطفل، ويقول «هنا تحديداً، يبرز دور الزوج كعنصر أساسي في تقديم الدعم والرعاية اللازمين لزوجته، خلال هذه المرحلة».
ويحدّد الدكتور ياسر عبد الرازق أعراض كآبة ما بعد الولادة، والتي تشير، حين ظهورها، إلى أن الزوجة في حاجة للدعم المكثف والرعاية من المحيطين، بخاصة الزوج، في نقاط عدّة، أهمها:
- الشعور المستمر بالحزن واليأس والتعب.
- وفقدان الاهتمام بالطفل والمحيط، وبنفسها أيضاً.
- مواجهة صعوبات في القيام بالأعمال المعتادة للأم.
- الرغبة المستمرة في البكاء من دون سبب، أو لأتفه الأسباب.
- فقدان المتعة بالأشياء والعادات التي كانت تجلب السعادة سابقاً.
- الشعور بالذنب تجاه الطفل، والعائلة، والعجز والفشل.
- اضطرابات في النوم والشهية.
- صعوبة في تحمّل الضغط النفسي حتى لو كان بسيطاً.
- الانعزال، وأحياناً الغضب وسرعة الانفعال.
- لامبالاة تجاه الطفل الجديد.

أسباب كآبة الأم بعد النفاس وإلى متى تستمر؟
أما الدكتورة غادة حشمت، خبيرة العلاقات الزوجية والأسرية بالقاهرة، فتؤكد هي الأخرى أن التقلبات المزاجية تلاحق المرأة منذ بدء فترة الحمل، وتستمر معها بعد الولادة، وربما تكون أعنف وأشدّ في هذه المرحلة، وتشرح «غالباً ما تشعر المرأة الحامل بتغييرات نفسية مفاجئة، فتشعر بالسعادة أحياناً، والكآبة أحياناً أخرى، وتعيش في جو من التأرجح العاطفي المتقلب، وهذا طبيعي عند النساء الحوامل، لهذا كان واجباً على الأب أن يراعي الحالة النفسية التي تعيشها الأم، فتحاط بالحنان والرعاية، كما يجب على الأب مضاعفة صبره وجهده معها، بأن يجنبها كل ما يمكن أن يسوقها إلى الانفعال والضيق، إذ إن الانفعالات الحادة والتوترات العصبية والنفسية للأم يمكن أن تنتقل إلى الطفل».
وتلفت الدكتورة غادة حشمت إلى أن الدراسات أثبتت أن الفترة الأولى ما بعد الولادة هي فترة انتقالية تحدث فيها تغييرات، كبيرة وكثيرة، في حياة المرأة، والعائلة بشكل عام، منها التغييرات الإيجابية التي ترتبط بفرحة انضمام طفل جديد إلى العائلة، بعد انتظار وترقب دام تسعة أشهر، ومنها التغيّرات التي هي بمثابة تحديات للعائلة لرغبتها في الاعتناء بالطفل بالشكل الأفضل.
وتشير الاستشارية الأسرية إلى أسباب عدّة تدفع الأم للإصابة بالاكتئاب بعد الولادة، ومنها:
1. الطفل الصغير يحتاج إلى من يرافقه طوال الوقت، ويقوم بتلبية حاجاته، الجسدية والنفسية. هذا الاعتناء يقع بأغلبيته على كاهل المرأة، وهو اعتناء مكثف، ومتواصل كل يوم، وكل ساعة، يسبب لها ضغطا نفسياً كبيراً.
2. الاهتمام المتواصل والمكثف يؤدي إلى إرهاق جسدي ونفسي، وحالة من التوتر، أو المزاج السيئ، والعصبية، وهذه المشاعر تعتبر طبيعية.
3. التغيّرات الجسدية والهرمونية التي تحدث للمرأة أثناء وبعد الولادة.
4. التقلبات المزاجية الحادة التي تجعل الأم تشعر بالتعب العاطفي، والقلق المستمر.
5. فقدان الاستقلالية للأم بسبب المسؤولية الجديدة في رعاية المولود الجديد. ويلاحق الأم شعور بالانفصال عن الذات، حيث تفقد الإحساس بأنها نفس الشخص الذي كانت عليه قبل الولادة.
6. انعدام، أو ضعف الدعم الاجتماعي من العائلة، وغالباً ما تكون علاقة الزوجة في هذه المرحلة مضطربة مع الزوج.
7. تغيّر نمط النوم وأسلوب الحياة بعد الولادة.
8. إذا كانت المرأة قد تعرضت لحالات اكتئاب سابقة، تكون أكثر عرضة للإصابة بهذه الحالة بعد الولادة.

نصائح حب ودعم للأم
تتفق معهما الدكتورة داليا عزام، الاستشارية النفسية والمتخصصة في العلاقات الزوجية بالقاهرة، في أنه بعد الولادة تحدث تغيّرات هرمونية هائلة تؤثر في مزاج الأم، وعواطفها، بشكل غير مسبوق، فمستويات الهرمونات، مثل الإستروجين والبروجستيرون، تنخفض فجأة بعد الولادة، ما قد يؤدي إلى اكتئاب ما بعد الولادة، وهو ليس مجرد «حزن» مؤقت، بل حالة نفسية تحتاج إلى دعم حقيقي.
وتقدم الاستشارية النفسية بعض النصائح للزوجين ليتمكنا من خلالها تجاوز هذه المرحلة الصعبة، منها:
- الدعم النفسي من العائلة، والأقارب، والأصدقاء، لخلق توازن في حياة المرأة كأم، وزوجة، وموظفة، والأمر المهم بالنسبة إلى العائلة أن تعلم أن هذا الاضطراب هو مرض حقيقي، وليس دلعاً، أو دلالاً زائداً من الأم، وأنه استجابة سلبية للتغييرات التي حدثت لها بسبب الولادة.
- يعتبر دور الزوج أساسياً في علاج هذا الاضطراب لدى الزوجة من خلال دعمها، وسماع معاناتها، وتجاوز المحنة.
- يجب أن ينتبه الجميع لضرورة الكفّ عن لومها، والكفّ عن وعظها المستمر بطريقة مبالغ فيها، والبدء الفوري بمساندتها، عاطفياً واجتماعياً.
- من المهم الانتباه إذا استمرت هذه المشاعر لمدة طويلة، عندها يجب التوجه لطلب المساعدة من أجل اجتياز هذه المرحلة الانتقالية من تحدياتها، والتمتع بإيجابياتها، من خلال العلاج الدوائي، والمتابعة من قبل الطبيب النفسي.
- ينبغي على الزوج أن ينتبه لهذه الأمور، وأن يقدّر الزوجة على تعبها، وأن يساعدها قدر الإمكان، ويأخذ دور الأب الفعّال من خلال الاعتناء بالطفل.
- فتور العلاقة الزوجية أثناء الحمل، وما بعد الولادة، يؤثر سلباً في نفسية الزوجة التي هي في أمسّ الحاجة إلى التعاطف، والدعم، والحنان، والاهتمام من قبل زوجها، مع التفهم لطبيعة المرحلة التي تمرّ بها، حيث تحدث جملة من التغيّرات الهرمونية التي تنعكس على المزاج والنفسية.
- من الهام خلال كل يوم إعطاء فسحة للزوجة ترتاح فيها من الاعتناء المكثف بالطفل، والطلعات العائلية المشتركة من شأنها أن تدخل جواً مختلفاً إلى نفسية العائلة، والمرأة بشكل خاص.
- منحها الوقت الكافي لتستعيد صحتها، وتندمج في حياتها مرة أخرى، حيث يستغرق التئام الجرح الناتج عن الولادة القيصرية نحو 6 أسابيع، من الناحية الطبية، لكن هذا لا يعني أن الأم استعادت عافيتها بالكامل. حتى في الولادة الطبيعية يتطلب الأمر شهوراً حتى تلتئم العضلات والأنسجة التي تمدّدت خلال الحمل، وقد تعاني بعض الأمهات مشكلات تمتد لشهور طويلة .
- يحتاج الجسم إلى نحو 12 شهراً ليستعيد قوته السابقة، لكن في ظل مسؤوليات الأمومة المتزايدة لا تحصل الكثير من الأمّهات على الراحة الكافية لدعم عملية التعافي.
- التقدير والاعتراف بتضحياتها فمجرد جملة «أنت تقومين بعمل رائع» قد تصنع فارقاً كبيراً.
- تشجيعها على العناية بنفسها سواء، ب في الخروج قليلاً وممارسة الرياضة، أو حتى تخصيص وقت لهواياتها القديمة.
وفي النهاية، تحتاج الأم إلى وقت كاف لاستعادة التوازن، النفسي والعاطفي، وإيجاد وقت للعناية بالنفس، وبناء هوية جديدة تجمع بين الأمومة، والذات القديمة. وخلال هذه المدة تحتاج الأم إلى دعم أسرتها، بخاصة الزوج، ومجتمعها، حتى لا تغرق في الشعور بالوحدة والضغط، وبدلاً من اعتبار رعاية الطفل مسؤولية الأم وحدها، يجب أن يكون الأب جزءاً أساسياً من هذه الرحلة.
اقرأ أيضاً: 8 طرق لدعم الأم الجديدة