22 مايو 2025

أسرار شراكة العمر الناجحة.. المعرفة بالحقوق والواجبات

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

تفرض التغيّرات الاجتماعية وارتفاع معدلات الخلافات الزوجية، الحاجة الملحّة إلى تعزيز الوعي بالحقوق والواجبات، كأساس لضمان الاستقرار الأسري. وقد أظهرت القضايا التي تشهدها مراكز الإصلاح الأسري أن أغلب أسباب تصاعد حدّة الخلافات بين الزوجين، ناجم عن غياب الفهم المتوازن للعلاقة الزوجية، وضعف ترجمة المفاهيم، الشرعية والقانونية.

وفي هذا الإطار، نظمت جمعية النهضة النسائية، إدارة الفعاليات الدينية والثقافية، ضمن أعمال الملتقى الفقهي الثالث لقضايا المرأة، ورشة تحت عنوان «دور الوعي بالحقوق والواجبات في تحقيق الاستقرار الأسري»، كشف فيها مستشارو الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، أهمية تحقيق التوازن داخل الأسرة المبنيّ على الممارسة الحقيقية لمبدأ الشراكة والتكامل في تحمّل المسؤوليات.

مجلة كل الأسرة

الوعي الإيجابي بالواجبات

في ظل تزايد النزاعات الأسرية، وارتفاع وتيرة القضايا في محاكم الأحوال الشخصية، تبرز قضية الوعي الأسري كعامل حاسم في بناء أسر مستقرّة. وبينما ترفع شعارات حول ضرورة فهم الحقوق والواجبات بين الزوجين، ترى الخبيرة الاجتماعية في قسم التوجيه والإصلاح الأسري بمحاكم دبي، الدكتورة فاطمة جاسم، وجود خلط كبير بين المعرفة النظرية والممارسة الفعلية لهذا الوعي، تقول «الوعي الإيجابي لا يعني أن يطبّق الزوجان كل شيء بحذافيره، بل أن يكون هناك فهم، واحترام متبادل، ولغة حوار هادئة، وتوزيع عادل للمسؤوليات، بشكل تلقائي ومنطقي، وعدم تحميل طرف واحد جميع الأعباء، بل المشاركة، ولو بجزء بسيط، بما يسهم في استقرار الأسرة. على سبيل المثال، إيقاظ الأبناء صباحاً، يبدو تفصيلاً صغيراً، لكنه يمثل واحدة من المسؤوليات اليومية التي تعزز روح التعاون، وتدعم كيان الأسرة. ليست مفروضة، لكنها تعبير عملي عن الشراكة التي ندعو إلى ترسيخها».

وتتحدث د. فاطمة عن واقع وعي الأزواج في المجتمعات العربية «يمتلك كل من الرجل والمرأة، درجة متقاربة من الوعي بالحقوق والواجبات، لكنها في الوقت ذاته لا تكفي لتفادي الخلافات الزوجية التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى المحاكم، وهذا يوضح غياب الفهم العميق للمشكلات، وضعف لغة الحوار الذي يصعب الوصول إلى التفاهم»، وتوضح طبيعة الخلافات الزوجية «تغيّرت المشكلات بتغيّر طبيعة الحياة، فلم تعد مقتصرة على الجوانب المادية، أو الضرر الجسدي، أو الإهمال، فحسب، بل أصبحنا نرى خلافات تنبع من اختلاف نمط التفكير بين الزوجين، أو شعور بعدم الألفة، والتباعد النفسي، على سبيل المثال، بتنا نسمع أزواجاً يقولون: (ما عندنا نفس المزاج)، أو (ما نتفق في طريقة التفكير)، هذه النوعية من الخلافات لم تكن تصنف كمشكلات جوهرية في السابق، لكن الآن، ومع تطور وعي الأفراد وتبدّل الأولويات، بات التوقف عندها أمراً يستحق، إذ رغم أنها قد تبدو بسيطة، لكنها بذرة قد تنمو لتصبح أزمة حقيقية، إذا لم يتم التعامل معها بوعي، وفهم مبكر».

مجلة كل الأسرة

3 أبعاد لفهم الحقوق في الأسرة

فيما تؤكد، موزة الشامسي، المدرّبة والمختصة في مجال الأسرة والتربية من الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة، أن «الوعي بالحقوق والواجبات هو الأساس الذي يُبنى عليه الاستقرار الأسري والمجتمعي. والكثير من الأزمات التي نشهدها اليوم ناجمة عن غياب الفهم الصحيح، أو التوازن بين ما للفرد من حقوق، وما عليه من واجبات. فعندما يطالب أحدهم بحقه من دون أن يؤدي ما عليه من واجب، تبدأ الأزمة، ولو أدى كل فرد واجبه كما ينبغي، لما وُجدت فجوة تفضي إلى نزاع، قال تعالى في كتابه الكريم (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وقال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام (أعطِ كل ذي حقٍ حقه)».

وتؤكد موزة الشامسي أن دور الأسرة «لا يقتصر على تلبية الاحتياجات المادية فقط، بل يجب أن يكون لها دور واعٍ في غرس مفاهيم العدل وتحمّل المسؤولية في نفوس الأبناء منذ الصغر، فالاستقرار الأسري لا يتحقق إلا حين يكون كل فرد في الأسرة مدركاً لحقوقه، وملتزماً بواجباته»، وتوضح «الأبعاد الثلاثة: الشرع، والعقل، والعُرف، جميعها تشكل الأساس في فهم الحقوق في السياق الأسري والاجتماعي. في بعض الأحيان قد لا يكون هناك نصّ شرعي صريح في مسألة ما، وبذلك يكون العرف والعادة من مصادر التشريع المعتمدة، ليكونا كفيلين بتحديد ما هو حق، وما هو واجب. فالشرع لم يغفل شيئاً، لكن وعي الناس بهذه الحقوق قد يختلف، وهنا يأتي دور العقل والعرف في استكمال الصورة، وتحقيق المعنى الإنساني العميق للحق».

وتشير أيضاً إلى أن «تطبيق مفهومَي الحقوق والواجبات لا يقتصر على العلاقات بين الزوجين فقط، بل يشمل أيضاً طريقة تعاملنا مع أبنائنا داخل منظومة الأسرة. فعندما يُفهم الحق وتُؤدى الواجبات داخل البيت، نكون قد أسّسنا لبيئة مستقرّة تنعكس آثارها الإيجابية على المجتمع بأكمله». وتوضح معنى الواجبات «هي الوجه الآخر للحقوق، حيث تعرّف في الفقه بأنها ما طلب الشرع فعله طلباً جازماً، بحيث يثاب من يؤديه، ويلام أو يعاقب من يتركه، والعقوبة هنا لا تقتصر على العقوبة الدنيوية، أو القانونية فقط، بل قد تكون من سُنن الله الكونية. فحين يهمل الإنسان واجباً من واجباته، سواء تجاه أسرته أو مجتمعه، فإن العواقب تأتي على شكل مشكلات، أو عثرات تؤثر في استقراره، الشخصي والأسري».

وتضيف «إن الواجبات بين الزوجين ليست اجتهاداً بشرياً، بل هي تنظيم إلهي دقيق، أقرّه الله سبحانه وتعالى لتحقيق التوازن والرحمة داخل الأسرة، بقوله تعالى (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، وهذا التفضيل ليس انتقاصاً من قدر المرأة، بل توزيع للأدوار بما يضمن استقرار الأسرة، وعندما يفهم هذا التكامل على حقيقته، يتحقق الاستقرار، ويُبنى البيت على أسس متينة من الرحمة والتفاهم». وتلفت إلى قضية تنمية الشعور بالمسؤولية «أبرز أسباب فقدان التوازن الأسري اليوم، هو تبادل اللوم، وتخلي كل طرف عن دوره، حيث نلاحظ أن كثيراً من الآباء والأمهات يتحمّلون كل الأعباء داخل المنزل، في حين يقصى الأبناء عن تحمل مسؤولياتهم، ما يخلق جيلاً اتكالياً لا يقدّر الجهد، ويعتقد أن كل شيء يجب أن يقدم له من دون مجهود، أو مقابل»، وتؤكد على «أهمية تسليط الضوء على غرس مفاهيم الحقوق والواجبات منذ الطفولة. وتنشئة الأبناء على أن هذا الوعي المبكر يجعلهم أحراراً ومسؤولين في مختلف مراحل حياتهم، فحين يدرك الطفل، منذ سنواته الأولى، أن عليه التزامات ومسؤوليات، تنمو لديه شخصية متوازنة قادرة على اتخاذ القرار، لذلك يجب أن يعي أن العلاقة ليست قائمة على الأخذ فقط، بل على العطاء أيضاً».

مجلة كل الأسرة

التشريعات الأسرية التي تحدد الحقوق والواجبات

من جهته، يكشف مدير إدارة الرعاية والتأهيل في هيئة تنمية المجتمع والمهتم بشؤون الأسرة الدكتور عبد العزيز الحمادي، رؤيته القانونية والاجتماعية حول أهمية التشريعات الأسرية التي تحدّد الحقوق والواجبات، وتنظم العلاقة بين الزوجين، وتحفظ استقرار الحياة الزوجية «الأسرة نواة المجتمع، واستقرارها يعني استقراره»، مؤكداً «إن القانون لا يقتصر على فضّ النزاعات بين أفرادها، بل يسهم في الوقاية من هذه النزاعات منذ البداية من خلال التوعية والتقنين».

ويوضح د.الحمادي، أن التشريعات المرتبطة بالأسرة والمستمدة من الشريعة الإسلامية لا يتم فرضها بشكل جامد، إنما تصاغ بما يناسب العصر، وتُراعى فيها التفاصيل الدقيقة لحياة الزوجين، منها على سبيل المثال:

  • المادة (54) التي تلزم الزوج بالنفقة، والمسكن، وحسن المعاشرة، مع الحفاظ على كرامة الزوجة.
  • المادة (55) التي تبيّن واجبات الزوجة، ومنها طاعة الزوج في غير معصية، والمحافظة على الأسرة.

ويضيف «الهدف من القانون ليس فرض السيطرة، أو رسم حدود صارمة، بل تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، حتى لا يظلم حق أيّ طرف من الطرفين، وتكون الأولوية قبل ذلك للصلح، قبل اللجوء إلى القضاء، من خلال مراكز التوجيه الأسري. كما منحت هذه القوانين المرأة حق اللجوء إلى القضاء حال تعرّضها للتعسف، لكونها شريكة في مؤسسة الزواج، والقانون كفيل بضمان كرامتها، وحقها في الطلاق، إذا ما ساءت العشرة».

ويشير د. الحمادي إلى أهمية «مواكبة التشريعات الأسرية التحولات الاجتماعية، وقراءة الواقع الجديد، وترجمتها إلى نصوص تحاكي التحدّيات اليومية للأزواج، من دون المساس بثوابت الشريعة، ومن أبرز ما جاء في هذا المجال، المرسوم الاتحادي رقم 41 لسنة 2024 الخاص بالأحوال الشخصية، والذي شمل أكبر وأهم القوانين في مجال الأحوال الشخصية، بما يتضمنه من تحديثات جوهرية تمسّ حياة المواطنين، والمقيمين، ويعكس الرؤية الحديثة للدولة في حماية الأسرة، وتنظيم العلاقات الزوجية، بما يواكب العصر ويصون القيم.

ومن ضمن التعديلات التي شملها قانون الأحوال الشخصية الجديد، تغيير المرجعية القانونية التي يرجع إليها القاضي عند غياب نصّ صريح في القانون، واختيار الرأي الشرعي الذي يراه أنسب للمصلحة في كل حالة على حدة، من دون التقيد بمذهب معين، حيث لم يعد القاضي مقيداً بمدرسة فقهية واحدة، بل أصبح بإمكانه انتقاء الأيسر والأنسب من مختلف المذاهب.

كما شملت التعديلات دور مراكز الإصلاح الأسري، حيث كان القانون السابق ملزماً للأطراف بالمرور الإجباري عبر مراكز الإصلاح الأسري، ولجان التوجيه والإصلاح، قبل رفع دعوى الطلاق إلى المحكمة، وقد تم التعديل هذا الإجراء بما يمنح القاضي سلطة تقديرية كاملة، في تحديد مدى حاجة القضية إلى الإحالة إلى مراكز الإصلاح، وبصفته «قاضي الإشراف»، هو من يقيّم كل حالة على حدة، ويقرر ما إذا كانت تستدعي عرضها على مركز الإصلاح، أو يمكن مباشرة الدعوى القضائية من دون المرور بهذا المسار. وفي السياق التعديلات التي تضمنها قانون الأحوال الشخصية الجديد، إلغاء شرط الولاية للمرأة غير المواطنة المسلمة، بينما لا يزال هذا الشرط معمولاً به في زواج المواطنات».

مجلة كل الأسرة

منظومة القيم الأسرية

في ظل تسارع المتغيّرات الاجتماعية، تبرز تحدّيات عدّة أمام الأسرة والمجتمع، في تعزيز الوعي بالحقوق والواجبات. وفي هذا الإطار يكشف مدير إدارة التوعية والدعم الاجتماعي في مركز إرادة للعلاج والتأهيل بدبي الدكتور عبد الله الأنصاري، أبرز هذه التحدّيات، ويستعرض الوسائل الممكنة لتجاوزها، داعياً إلى ضرورة تفعيل دور المؤسسات التربوية، والإعلامية، والمجتمعية، في بناء مواطن واعٍ بحقوقه وواجباته، في ظل بيئة متغيّرة باستمرار، ويقول إن «مدخل فهم المسار التربوي يبدأ بثلاث كلمات أساسية وضرورية لغرس المبادئ المجتمعية في نفوس الأجيال، يمكن أن نطلق عليها «منظومة القيم»، وهو نهج يجب ألا يتوقف عند أولياء الأمور فقط، بل يشمل المعلمين، والمربّين، والمسؤولين، في الجهات الرسمية وغير الرسمية، فالمسؤولية التربوية اليوم باتت مشتركة في ظل وجود التحدّيات المتزايدة التي تعيق تحقيق الوعي المجتمعي، وعلى رأسها الانفتاح الإعلامي، وتعدّد الثقافات، وتسارع المتغيّرات الاجتماعية».

ويحدّد د. الأنصاري، هذه المنظومة بـ«القيم، السلوكات، القوانين». ويشرح «تكون البداية بغرس القيم، وهي المبادئ والمعتقدات الأساسية التي تشكل البوصلة الأخلاقية للفرد، ومن ثم تأتي السلوكات، وهي الممارسات الفعلية التي تعبّر عن تلك القيم في الحياة اليومية، أما القوانين، فهي الإطار الذي ينظم السلوك، ويعزز الالتزام بالقيم على مستوى المجتمع». ويكمل «هذه الثلاثية تشكل الأساس لبناء وعي مجتمعي سليم، وتوفر خريطة طريق واضحة لكل من الأفراد والمؤسسات، للعمل على تنشئة جيل يحمل قيماً راسخة، ويترجمها إلى سلوك إيجابي، في ظل منظومة قانونية تحفز وتحمي تلك الممارسات»، ويوضح د. الأنصاري أن القوانين «لا تقتصر على ما تضعه الدولة فحسب، بل تمتد أيضاً إلى داخل الأسرة، حيث ينبغي أن يكون لكل بيت نظامه الخاص المبني على القيم والسلوكات التي تعزز الانضباط والاحترام». مشدّداً على بناء ما يمكن أن نطلق عليه «منظومة القيم الأسرية»، التي يمكن أختصارها بـ«الأخلاق، والعقل، والصحة، والمال»، موضحا «إن غرس هذه القيم لا يكون بمجرّد الحديث عنها، بل من خلال ممارسات وسلوكات يومية، تعزز معناها الحقيقي في حياة الطفل. فمثلاً، حين يتحدث الوالد عن «الصحة» كقيمة، يجب أن يترجمها إلى سلوكات ملموسة، مثل الاهتمام بتغذية الطفل، والمتابعة الطبية، وتشجيعه على النشاط البدني، لأن الصحة هنا تشمل الجوانب البدنية والنفسية معاً». كما يلفت النظر إلى أن أيّ تقصير في هذه الجوانب، كإهمال نظامه الغذائي، أو عدم التعامل مع مشكلاته الصحية، يجعل الطفل ضحية غياب السلوك الواعي، على الرغم من وجود القيم المعلنة. ومن هنا، فإن القيم الأسرية لا تغرس بالشعارات، بل تُبنى بالقدوة، والممارسة اليومية.