
في لحظة تُبنى فيها أحلام العمر، لا تكون الزينة، ولا القاعات الفاخرة، هي ما يصنع الذكرى الأجمل، بل الدفء، والصدق، وقلوب اجتمعت على المحبة هي الأساس. ونشهد اليوم عودة بعض الأزواج إلى البساطة، وإقامة حفلات زفاف هادئة، يملأها الحب أكثر من البهرجة، هذا التوجّه الجديد لا يعبّر عن وعي اقتصادي فقط، بل يكشف عن فهم أعمق لمعنى الحياة الزوجية، وأسسها الحقيقية، ففي وقت باتت فيه المظاهر تطغى على الجوهر، يثبت الواقع أن البدايات المتزنة، والمبنية على التفاهم، لا على البذخ، غالباً ما تؤدي إلى زواج ناجح، ومستقر.
ومن أرض الواقع تأتي بعض النماذج التي قد تلهم الآخرين، منها ما اتخذه طبيب وعروسه، من الجنسية الأردنية، نشرا إعلان زواجهما على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ليلقى ردود فعل كبيرة من المتابعين، حيث جاء في فحواه عدم إقامة أيّ من أشكال الحفلات المتعارف عليها مجتمعياً، من حفل العرس، إلى الحناء، وسهرة الشباب، والزفة، وغيرها، على أن يشهر الزواج بإقامة غداء لخمسين من الأيتام الفقراء، من أموال العروسين، يحضره الأيتام حصراً، من دون دعوة العروسين أو أهلهما، مع عدم قبول العروسين للمبلغ المهدى والمسمّى بـ«النقوط» (الهدايا النقدية)، معتبرين أن الأقارب، والأصدقاء، وأبناءهم، أولى بأموالهم، ولا داعي لأن يقتطع الناس من أرزاقهم ليعطوها للآخرين.
هذا الاختيار يظهر تفكيراً مغايراً للعرف السائد، وهو التركيز على القيم الإنسانية والعطاء بدلاً من التفاخر بالمظاهر. تُرى، هل تؤثر مثل تلك المواقف في نظرة الشباب تجاه تكاليف الأعراس؟

الحب والتفاهم جوهرة الحياة الزوجية
توضح الدكتورة بدرية الظنحاني، خبيرة استشارات أسرية وتربوية «يمكن أن تغيّر هذه السلوكات نظرة العديد من الشباب نحو الزواج، فكثير منهم يشعرون بضغوطات كبيرة، بسبب تكاليف الزفاف الضخمة التي قد تتعدّى إمكاناتهم، وبالتالي، هذا الاتجاه قد يكون مصدر إلهام للتخلي عن التفاخر المادي، والتركيز على جوهر الحياة الزوجية، وقد يُحفز الشباب على التفكير في الزواج كعلاقة قائمة على الحب والتفاهم، بدلاً من اعتباره مناسبة اجتماعية للاستعراض».
وعندما يُنظر إلى العلاقة الزوجية بهذا الشكل، يتجنب الشريكان كثيراً من المشكلات الناتجة عن المبالغة في نفقات الزفاف، توضحها الدكتورة الظنحاني، كالآتي:
- الديون: يتسبب الإنفاق الزائد على حفلات الزفاف بتراكم الديون على الأزواج الجدُد، ما يخلق ضغطاً مالياً، قد يؤدي إلى مشكلات لاحقة.
- الاختلافات في التوقعات: قد يكون هناك خلاف بين الزوجين، أو بين العائلات بشأن النفقات والمظاهر، ما يؤدي إلى توتر في العلاقات العائلية.
- الضغط النفسي: التحضير لحفل زفاف ضخم يمكن أن يكون مرهقاً للغاية، ما يؤدي إلى زيادة التوتر والإرهاق بين الزوجين.
- التفاوت في الرغبات الشخصية: يمكن أن يسبب تفاوت وجهات النظر حول الاحتفال بالمناسبات الكبرى، مشاعر الإحباط، بخاصة إذا كان أحد العروسين يفضل البساطة، بينما الآخر متمسك بالمظاهر.
- الاستمرارية في المظاهر بعد الزفاف: قد يستمر أحد الطرفين في التركيز على المظاهر بعد الزواج، ما قد يخلق توترات في علاقتهما.

وتكمل «من جانب آخر، فإنني شخصياً أعتقد أن تقليل التكاليف في مثل هذه المناسبات يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير في الحياة الزوجية، فعلى سبيل المثال، كان مهر زواجي 5 آلاف درهم فقط، وأقمنا حفلاً بسيطاً، ولم يكن هناك أيّ ديون، أو أعباء مالية تلاحقنا كشريكين بعد الزفاف، ما أسهم في جعل تركيزنا الأساسي بناء حياة صحية ومستقرة، من دون إضافة أعباء مالية ليست أساسية، وجعلنا نتنقل في حياتنا الزوجية بهدوء، بعيداً عن ضغوط الديون. على النقيض، هناك قصة لزوجين آخرين، تراكمت عليهما الديون بسبب التفاخر بالمظاهر، والإنفاق الزائد على حفل زفاف فخم، ما أدى إلى تراكم الديون بشكل تدريجي، والنتيجة أسفرت عن وجود أطفال يعيشون تحت ضغط مادّي كبير، ومع مرور الوقت، استمرت الديون في التراكم، وأصبح الزوجان يواجهان صعوبة كبيرة في تلبية احتياجات أسرتهما اليومية، وللأسف، وصل الوضع إلى درجة أن الزوجة بدأت تعاني مشكلات صحية بسبب الضغوط النفسية المرتبطة بالديون».

نصائح للتقليل من مظاهر حفلات الزفاف
القصتان تعكسان فوارق كبيرة بين اختيارين مختلفين في التعامل مع نفقات الزفاف، فبينما كان قرار الطبيب، وعروسه، مبنياً على البساطة والعطاء، أدّى التفاخر بالمظاهر إلى تدمير الاستقرار، المالي والصحي، لعائلة أخرى. هاتان القصتان تبرزان أهمية اتخاذ قرارات مالية ناضجة ومستدامة في حياتنا، بخاصة في بداية الحياة الزوجية..
تقدم د. بدرية الظنحاني بعض الحلول للتقليل من تأثير المظاهر على فكرة الزواج:
- التوعية بأهمية البساطة: من خلال حملات توعية تشجع على إقامة حفلات زفاف بسيطة تركز على المعاني الحقيقية كقيم مثل، الحب، والودّ، والعطاء.
- تشجيع البدائل الاقتصادية: مثل إقامة حفلات زفاف جماعية لتقليل التكاليف، أو البحث عن خيارات احتفالية أقل كلفة.
- تعزيز ثقافة العطاء والمساعدة: تشجيع الأزواج على تخصيص جزء من ميزانية الزفاف لدعم الأنشطة الخيرية، مثل مساعدة الأيتام، أو المحتاجين.
- إعادة التفكير في التقاليد الاجتماعية: من خلال تقليل الضغوط الاجتماعية التي تدفع الأزواج الجدُد إلى صرف مبالغ ضخمة على حفلات الزفاف.
- الدعم المؤسساتي: تنظيم ورش عمل، ودورات توعية للمقبلين على الزواج حول كيفية تنظيم زفاف بسيط، وذي معنى، بعيداً عن التكاليف المبالغ فيها.
- دعم الفكرة من خلال الإعلام والمشاهير: تسليط الضوء على نماذج من الزفاف البسيط، والتشجيع على تبنّي هذه الفكرة من خلال مشاركة قصص نجاح.
- تعزيز مفاهيم الاستدامة: من خلال تنظيم حفلات زفاف صديقة للبيئة، واستخدام مواد مستدامة.
- التأكيد على الاستعداد النفسي والعاطفي: لتعليم الأزواج أهمية التحضير النفسي والعاطفي للعلاقة الزوجية، بدلاً من التركيز على الحفل فقط.
أنانيون يحبون لفت الأنظار
من جهته، يبيّن الدكتور عادل عبدالله، مستشار التدريب والتنمية، وخبير في برامج الموارد البشرية وإدارة الأزمات «تحكم مسألة الزواج، الأعراف وهي عبارة عن مجموعة من القواعد، والمعايير، والمقاييس الاجتماعية المتفق عليها، أو المقبولة لدى العامة، وغالباً ما تكون على هيئة عادة تنتشر بين الناس، ومن ضمن ما يندرج تحتها طقوس الأعراس، وما يرتبط بها من بذخ وإسراف، والمشكلة الحقيقية تكمن عندما يكون أحد العروسين، أو كلاهما، يحب المظاهر».
الأشخاص الماديّون بطبيعتهم أنانيّون ويهدفون إلى لفت أنظار الآخرين بالتباهي في كل خطوات حياتهم
ويضيف «وفق آراء بعض علماء النفس، فإن الأشخاص الماديين بطبيعتهم أنانيون، ويهدفون إلى لفت أنظار الآخرين بالتباهي في كل خطوات حياتهم، ونتيجة لسلوكاتهم يكونون أكثر عرضة من غيرهم، للإصابة بالاكتئاب، والخوف، والمعاناة، كما أن علاقتهم بشركاء حياتهم دائماً ما تكون غير جيدة، ومُذبذبة، فنتيجة لتراكم الديون والضغوط المادية التي تلاحق الطرفين، تتآكل العواطف، وتضعف العلاقة الزوجية، ومع الوقت يبحث أحدهما، أو كلاهما، عن أخطاء غير حقيقية لشريك حياته بغية إظهار الخلل فيه، وأنه سبب لفتور تلك العلاقة».
وينصح الدكتور عادل عبدالله، المقبلين على الزواج بأهمية تجنّب أكثر الأسباب الشائعة وراء شجار الأزواج، وهي تلك المرتبطة بالماديات «الشجار بين الزوجين يكون أكثر سخونة عندما يتعلق الأمر بالمال، وأكثر استطالة من حيث الوقت اللازم لحل المشكلة، مقارنة بالمشكلات الأخرى، ما يستدعي تجنب الصراعات المادية للتقليل من شأن التوتر في العلاقة الزوجية، ويكون ذلك بتقليل الديون التي تلاحق العروسين، من أول شهر زواج، فعندما يبدآن علاقتهما متحرّرين بالقدر المستطاع من أيّ قيود متعلقة بتكاليف الزواج، ستكون حياتهما لهما، ويستطيعان التفكير، بشكل إيجابي، في إنجاح تلك العلاقة، وتوطيدها، وعلى الأهل أن يقفوا بجانب أبنائهم، ويزرعون بداخلهم الهدف من الزواج، وأنه لا يقتصر على فستان الزفاف، والكوشة، والمنزل الفخم، بل شرعه الله تعالى لإعمار الأرض بالذرية الصالحة».