في واحدة من الروايات العربية، ينوي الطبّاخ لدى إحدى العائلات الكبيرة أن يخطب خادمة تشتغل لدى عائلة مجاورة. لكنها ترفضه لأنها لا يمكن أن تتزوج «خادماً». يعود الرجل محبطاً، ويصارح ربّ عمله بالغضب المتجمّع في صدره، يقول له: «يا عمّي فهمنا أن الدكتورة، أي الطبيبة، تفضل أن تتزوج دكتوراً مثلها، والمعلّمة ترتبط بمعلّم، فلماذا ترفضني وهي خادمة، وأنا خادم»؟
نسمع دائماً عن شابات يرفضن الاقتران بمن لا يملك مؤهلاً دراسياً يناسب مستواهنّ الدراسي. أي أنّ الجامعية لا تتنازل وتتزوج من خريج معهد، أو من اكتفى بالثانوية العامة. لكن ما نراه اليوم كسر كل تلك الإطارات الحديدية الصلبة، وفتح المجال لقيم لم تكن معروفة من قبل.
الجامعية المتباهية بشهادتها صارت تبحث عن زوج يملك رصيداً سميناً، حتى لو لم يكن من أصحاب الشهادات. وهي حتى لو شعرت بالميل إلى أحد زملائها الخريجين معها، فهي ليست مستعدّة لأن تنتظره حتى يكوّن نفسه، ويستطيع أن يفتح لها بيتاً، ويشتري لها سيارة، مع شقة في دول الاصطياف.
قد يبدو هذا الكلام مخصّصاً لواقعنا العربي. لكن هذا التقرير المنشور في مجلة فرنسية واسعة الانتشار يخبرنا أنها ظاهرة باتت ملحوظة في فرنسا، والولايات المتحدة، وكل دول العالم. ولهذه الظاهرة اسم علمي هو «hypogami». وقد تختلف الأسباب، لكن النتيجة واحدة. ويتضمن التقرير عرضاً تاريخياً، جاء فيه أن الرجال في النصف الأول من القرن العشرين كانوا يختارون زوجات غير متعلمات. لكن الأمر تغيّر في سنوات الخمسينيات والستينيات مع تزايد أعداد الطالبات في المرحلة الجامعية، ودخولهنّ كل ميادين العمل. ومنذ ذلك الوقت صارت الزيجات تبنى على مبدأ التكافؤ في التحصيل الدراسي. وهذا يعني أن يبحث كل طرف عمّن يناسبه، فكرياً أو علمياً.
تناسُب تراجَع، وتخلخل في السنوات الأخيرة، ولم يعُد التكافؤ الاجتماعي هو القاعدة. وفي دراسة لكريستين شوارتز، أستاذة علم الاجتماع في جامعة «وسكونسن» الأمريكية، فإن نسبة الزيجات غير المتكافئة دراسياً كانت 39 في المئة عام 1980، لكنها تبلغ حالياً 62 في المئة. ونحن نتحدث هنا عن الولايات المتحدة.
ظاهرة باتت حقيقة في بلدان كثيرة. وليس السبب هو تقدم النساء اقتصادياً، واكتفاؤهنّ بما يملكن من دون الحاجة إلى زوج ينفق عليهن، كما أنه ليس انتشار ظاهرة التعارف عبر مواقع التواصل، إنما السبب، ببساطة، هو أن عدد الطالبات في الجامعات صار يزيد على عدد الطلاب. ففي عام 2021 كان عدد الإناث في الجامعات الأمريكية يزيد 1.6 مليون طالبة على عدد الذكور. ولم تعُد صاحبة الشهادة العليا تجد زوجاً له مؤهلها العلمي ذاته. هذا لا يعني أن تتزوج رجلاً فقيراً، أو غير قادر على الإنفاق على بيته، وأسرته. ففي حالات كثيرة كان الزوج الذي يشتغل سبّاكاً، أو طباخاً، أو صاحب مطعم للوجبات السريعة، هو الذي يدفع لزوجته أقساط الجامعة.
صاح عادل إمام في أحد أفلامه ممتعضاً: «آه يا بلد شهادات...». وكثيراً ما سمعنا عبارة أن «الرجل لا يعيبه سوى جيبه». وها نحن نعيش عصر الجيب العامر الذي يغري المرأة، حتى ولو كان صاحبه جاهلاً، وكانت هي عالمة ذرة.