دلّت دراسات حديثة على أن بنيان الحياة العاطفية يبدأ منذ نعومة الأظفار، ويتجذّر في العلاقة العاطفية التي نقيمها مع الوالدين، ليتواصل في سِنّ الرشد في العلاقة الزوجية. لذا، فإن نوعية العلاقة التي تربطنا بوالدينا حاسمة. فإذا ما كانت مُطَمْئنة، صارت الحياة العاطفية بعدها متوازنة، وإذا ما كانت فاقدة للطمأنينة، شعر المرء بالقلق، أو سعى إلى تجنّب الحميمية في العلاقة.
في كتابه «قلْ لي من تحب، أقُل لك من أنت»، يشير المؤلف مارك بيزوريو، إلى التفاعلات المبكرة بين الطفل الصغير جداً وبين أهله، تشكل مقدمة لديناميات لاحقة في العلاقات العاطفية التي تتراوح بين الأشد اطمئناناً، والأقل اطمئناناً.
وقد قام عالمان نفسيان من جامعة كاليفورنيا، هما سيندي هازان، وفيليب شايفر، بوضع تصنيف للراشدين بحسب ثلاثة أساليب من التعلق العاطفي توازي أساليب التعلق في الطفولة. وقد تبيَّن أن النتائج التي تمّ الحصول عليها بالنسبة إلى الكبار موازية لتلك التي تمّ الحصول عليها بالنسبة إلى الأطفال، أي 56% لأسلوب التعلّق المُطَمْئن، 24% لأسلوب التعلّق المتحاشي، و20% لأسلوب التعلّق القلق.
أساليب التعلق العاطفي للأشخاص البالغين
أسلوب التعلّق المُطَمْئن
صاحب هذا الأسلوب قد عاش علاقات مطمئنة مع أهله جعلته يشعر بالأمان. ولم يعرف خلال الطفولة، وبعدها في سن الرشد، سوى درجة متدنية من قلق الهجران، ودرجة متدنية من قلق تحاشي الحياة الحميمة، ما يَعِد صاحب هذا الأسلوب بإمكانية تحقيق السعادة الزوجية. فهو سينطلق في حياته يرافقه يقين دائم بأنه سيجد إلى جانبه شخص يقف معه، كما أنه يمتلك عند الحاجة موارده الداخلية الخاصة من أجل بلوغ الاطمئنان.
هذه القوة الداخلية هي إرث من والديه لا يقدَّر بثمن، وسيكون معه طيلة حياته مع الشريك. فالحضور النفسي والجسدي للأهل كان قوياً، ومطمئناً إلى درجة أنه سمح للطفل بأن يبني تصوّراً ذهنياً إيجابياً عن العلاقات الحميمة، ما سيساعده على الدوام في تجاوز لحظات عدم الاستقرار المؤقتة.
لن يشكّ صاحب هذا الأسلوب في الحضور المحب والدائم لشريك حياته، وسيظل مسكوناً بوجوده المطمئن، سواء أكان حاضراً جسدياً، أم لا. فمجرّد تذكُّر شريك حياته يهدّئه ويجلب السعادة إلى قلبه، وسيسلك في حياته العاطفية السلوك ذاته الذي سلكه في الطفولة في علاقته مع أهله. وفي حال كان الزوجان يمتلكان هذا النوع من الأسلوب، فإنهما لن ينظرا إلى النزاعات بينهما على أنها تهديد للعلاقة. وحين يندلع نزاع، وهذا أمر لا بد منه، يشعر الطرفان أنهما قادران على مواجهته معاً، مستعينَين بمواردهما الداخلية المتنوعة. وسيعملان معاً، وهما واثقان بالكامل بقدراتهما المتبادلة والمتعاونة، من أجل تخطي الخلاف المؤقت.
صاحب أسلوب التعلق المطمئن لا ينتظر، ولا يُراكِم الإحباطات الداخلية، ويجد أنه من الطبيعي أن يعبّر عنها من دون تردد، ولا كراهية، ولا نقمة، مع اختيار الكلمات والوقت المناسبين. ليس المطلوب فتح النقاش من أجل إقناع الطرف الآخر، أو جرحه، أو إفراغ ما في الجعبة على مسامعه، بل المطلوب هو إخبار الطرف الآخر بالمشاعر والأفكار التي تجول في الداخل، وطلب المساعدة منه.
صاحب أسلوب التعلّق المطمئن يحافظ، مع الوقت، على هذه المقاربة الإيجابية في العلاقات الحميمة، وإزاء العثرات التي تصادفه فيها ضمن وضعية من التواصل المرن والمنفتح عموماً، خلال النزاعات، ولكن أيضاً أثناء كل أنواع التبادلات. الاندفاعة العفوية هي اندفاعة إرادة صادقة في إجراء تبادلات ومفاوضات نزيهة والتوصل إلى الحلول المناسبة ضمن قناعة بأن الآخر مورد يطيب الارتواء منه، من أجل التعلم والاكتشاف والتطور.
أسلوب التعلّق المُتحاشي
صاحب هذا الأسلوب يحمل تصورات إيجابية عن نفسه وسلبية عن الآخرين، هو ينكر رغبته في العلاقات الحميمة وحاجته إليها.
الأسلوب المتحاشي هو واحد من الأسلوبَين غير المطمئنين. وهو يتميز بدرجة متدنية من قلق التخلّي ودرجة عالية من تحاشي العلاقة الحميمة. صاحب هذا الأسلوب لم يكن يخشى أن يتخلى أهله عنه، وهو يعيش الوحدة بارتياح. لا يشك كذلك في أن الآخرين يرغبون في رفقته، أو يودُّون إقامة علاقات وثيقة معه. لكن، حينما كان طفلاً، أصابه جرح عميق في حميمية علاقته مع أمٍّ باردة، بعيدة، مكتئبة، أو عدائية.. إلخ.
وقد استنتج في أعماقه أن العلاقات الوثيقة مؤلمة بالضرورة، أو أنها تتضمن نسبة عالية من خطر الإصابة بالألم. لذا، وعد نفسه، في لاوعيه بالطبع، ألا يضع نفسه في وضعية الضعف ذاتها أبداً. وثمة صوت داخلي يذكِّره دائماً، وبمجرَّد أن تتراءى أمامه إمكانية علاقة عاطفية، بألا يعتمد على الآخرين وألا يجعل أحداً يعتمد عليه. هو من أشد المدافعين عن الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، ومن يطلب منه علاقة وثيقة يرى أنه يخنقه ويتطفَّل على حياته وسيقيم معه مسافة أكبر من أجل أن يتحاشى أي تبعية، يعتبرها في أي حال من الأحوال نوعاً من الضعف.
طلبات الشريك بمزيد من الحميمية والمشاركة العاطفية والتقارب تجعله يشعر بحالة من الهلع. هو يخشى بأن يتم استبعاده في سياق لا يرى فيه أي مخرج يرضيه، وسيبادر إلى وضع نفسه على مسافة من الشريك الذي يمكن أن يرفضه. لذا، خوفاً من الرفض يبادر إلى الرفض! حتى لو أن هذا سيؤدي إلى التضحية بعلاقة عزيزة حقاً إلى قلبه. في المسافة التي يقيمها، يشعر بأنه في أمان، حتى لو كان يدفع ثمناً باهظاً جداً مقابل هذا الأمان الزائف، وهو الوحدة في النهاية والفشل العاطفي.
أسلوب التعلّق القلق
صاحب هذا الأسلوب يحمل تصوراً سلبياً عن نفسه، وإيجابياً عن الآخرين. لا يملك شعوراً بأنه ذو قيمة، ولا بأنه جدير بالحب، وهو شديد الانشغال بالعلاقات الحميمة التي يسعى فيها إلى موافقة الآخر الذي يثق به. غالباً ما يميل الشخص القلق إلى بناء «أنا» مزيفة، تخفي شخصيته الحقيقية. يصنع هذا القناع الاجتماعي من أجل أن يجمِّل ما يخشى أنه قبيح فيه، وهذا ما يقيم بينه وبين الآخرين فراغاً هائلاً. بالطبع، قلّة القيمة التي يهجس بها خاطئة لكنه يرى نفسه كذلك، ويتصرف على هذا الأساس من خلال شعور عميق بالخجل، ورفض الذات.
يتَّسم صاحب هذا الأسلوب بدرجة قلق من التخلِّي عالية ودرجة تحاشي الحميمية متدنية. وهو في دينامية معكوسة لمن يمتلك أسلوب التعلق المتحاشي الذي يميل إلى الهرب من العلاقة الوثيقة. أما صاحب الأسلوب القلق، فهو على العكس يصبو بشدة إلى حميمية عاطفية كاملة مع الشريك، ويُفصح عن هذا الأمر بوضوح من خلال سلوكه الكلامي وغير الكلامي.
يتحدَّر صاحب هذا الأسلوب عامة، من أوساط عائلية حيث الاستقلالية كانت ملجومة لمصلحة العلاقات الاندماجية تغيب فيها حاجات الأهل الفردية، والمسافة بينهما. ويكون إرضاء الحاجة إلى التقارب الزائدة ملحّاً على مستوى العلاقة العاطفية، كما يبلغ الإلحاح درجة لا ينجح معها الشريك أبداً في أن يروي هذا العطش العاطفي بالكامل. لذا يعيش صاحب هذا الأسلوب شعوراً من الفراغ وفقدان القيمة، يؤدي به أحياناً إلى الإحساس بالغضب. فتكون ردة فعله من خلال سلوكات عدائية، أو تغيّرات مزاج تفضي إلى نزاعات متكررة مع الشريك.
لا يستطيع صاحب هذا الأسلوب احتمال الشعور بأن الشريك يقلِّل من قيمته، أو لا يعطيه موافقته، والأسوأ أن يقيم الشريك معه مسافة، وحتى لو اعتبر أنه على حق، فهو لا يستطيع أن يبقى طويلاً في غياب العلاقة القريبة من الشريك، لأن الأمر سيكون مصدر عذاب بالنسبة إليه. فهو يقترب بالتالي من الشريك ويتخذ موقف الضحية، معتبراً أنه يعطي الكثير، بحسب رأيه، في حين أن الآخر لا يستحقه لأنه لا يتلقى منه ما يكفي!
يحلم بعلاقة يكون فيها الشريك متاحاً له من دون أي قيد، أو شرط، يحبه بلا شروط وعلى استعداد دائم أن يذكِّره كم أنه الوحيد المهم في حياته. بالطبع، هذا الشريك المُغرم بعمق، والذي يكرس نفسه روحاً وجسداً، يجب ألا يكون بحاجة إلى أن يقيم أي علاقة صداقة مع أي شخص كان، بما أن العلاقة مع صاحب هذا الأسلوب تكفيه وتسعده بالكامل! وهنا أخيراً سيكون قد حقق التخيُّل المطلق الذي يسكنه في السر، وهو أن يكون واحداً في اثنين.
اقرأ أيضاً: ما أسباب الجمود العاطفي في العلاقات الزوجية؟ وكيف نعالجه؟