14 يوليو 2025

د. باسمة يونس تكتب: أطفال خلف الستار

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

مجلة كل الأسرة

يختبئ طفل أحياناً خلف الظلال، فهو لا يُرى كما ينبغي، ولا يُسمع كما يستحق، لأنه ببساطة منسي، ولا أحد يمنحه الاهتمام والرعاية اللازمة لينمو بخير. الجميع يرونه «بخير» لأنه ليس مريضاً ولا يعاني مشكلة مزمنة كما يعاني أخوه مثلاً أو أخته، وهذا الطفل يُعرف بما يسمى «متلازمة الطفل الزجاجي»، وهي ظاهرة نفسية واجتماعية تُصيب الأطفال الذين ينشؤون بجانب أشقاء يعانون إعاقة أو حالة صحية أو نفسية مزمنة، فيصبحون غير مرئيين وكأنهم يقفون خلف زجاج يعكس صورهم لكنه لا يظهرهم كما يجب.

وهذا الطفل الزجاجي يظهر في أسرة انشغلت بالطفل «المريض» الذي لا حول لهم ولا قوة بمصابه، لكنهم لا يدركون أن طفلهم «السليم» سيتحول بسبب تجاهلهم له وتركيزهم على مريضهم إلى كائن شفاف، يُتوقع منه الصبر، والنضج، والتفهم، بينما تُهمل احتياجاته العاطفية والنفسية دون قصد.

وتُسمى هذه المتلازمة «الزجاجية»، لأن الطفل يبدو وكأنه شفاف، يمكن رؤية ما وراءه، لكنه لا يُرى هو نفسه. فهو موجود، لكنه غير حاضر، لأنه لا يشكّل مركز الاهتمام. وقد لا يُعبّر هذا الطفل عن مشاعره حتى لا يزيد من أعباء الأسرة، وقد يتبنى أدواراً تفوق سنه كالمساعدة في رعاية الأخ المريض، أو محاولة التميز والتفوق ليحصل على بعض الانتباه. وهذا ما يجعل البعض يعتقدون أن هذا الطفل قوي لأنه لا يعاني، وعظيم لأنه لا يطلب شيئاً، لكنه في الحقيقة يعيش صراعاً داخلياً صامتاً ومدمراً على المدى البعيد.

إن الطفل الزجاجي ليس ضعيفاً، ويجب ألا ينظر إليه نظرة عطف وشفقة، فهو وإن كان في كثير من الأحيان يبدو للآخرين ناضجاً ومتماسكاً، لكنه في داخله يعاني الإهمال العاطفي، وقد يشعر بالذنب لأنه سليم، أو بالغيرة من الاهتمام الزائد بأخيه، أو بالخوف من إظهار ضعفه لأنه يخشى أن يُوصف بأنه أناني. هذا الضغط النفسي المزمن قد ينعكس لاحقاً على صحته النفسية، فيصيبه بالاكتئاب، أو القلق، أو انعدام الثقة بالنفس.

ولا تعني هذه المتلازمة أن وجود طفل مريض في الأسرة أمر سلبي أو مشكلة ستكون سبباً في تدمير نفسية أفراد الأسرة، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم وعي الأسرة بذلك، وغياب التوازن في توزيع الاهتمام والدعم العاطفي، فللأسرة دور كبير في الحيلولة دون نشوء هذه الحالة، من خلال الاعتراف بمشاعر الطفل «الزجاجي»، وإشراكه في الحديث، والإنصات إليه، ومنحه مساحته الخاصة ليُعبّر عن نفسه، وألا يترك كمجرد «مساعد» في العائلة، أو يوصف بأنه «الطفل القوي»، بل هو كائن له احتياجاته الخاصة أيضاً.

كما أن للمجتمع والمدرسة دوراً في الكشف عن هذه الحالات ودعمها، من خلال توفير جلسات إرشاد نفسي في المدارس، أو توعية الأهل عبر الحملات الإعلامية وبرامج التثقيف الأسري. ويمكن أن تساعد القصص التربوية والكتب الموجهة للأطفال على التعبير عن مشاعرهم وفهمها.

إن الطفل الزجاجي ليس مشكلة يجب حلها، بل هو روح يجب رؤيتها، والتعامل معه بوعي ومحبة ليبدأ في الازدهار. فكل طفل يستحق أن يكون مرئياً، مسموعاً، ومحبوباً ليس من أجل ما يقدمه فقط، بل من أجل ما هو عليه.

اقرأ أيضاً: أبناؤكم بحاجة للعاطفة.. أشبعوا هذه الحاجة بلا تقتير ولا إسراف