08 ديسمبر 2025

معدّيات قناة السويس... جسور عائمة بين حضارتين

محرر متعاون - مكتب القاهرة

مجلة كل الأسرة

تعانق طيور النورس بألوانها البيضاء، المعدّيات المنتشرة على طول المجرى الملاحي لقناة السويس، كأنما تلقي تحية الصباح على ركابها في رحلتهم اليومية إلى البرّ الشرقي للقناة.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تتحول صفحة مياه القناة الزرقاء هنا إلى مشهد بديع، يروي حكايات السكان المقيمين على ضفتي المجرى الملاحي، في رحلة العبور اليومي التي يبلغ عمرها ما يزيد على مئة عام، وهو التاريخ الذي يتزامن مع تأسيس مصر الخديوية، مدينتي بورفؤاد وبورتوفيق، عند بوغازي السويس، وبورسعيد.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

يستخدم سكان مدن القناة معدّيات نقل الركاب بين ضفتي القناة، كعادة يومية تنقلهم إلى مشارف القارة الآسيوية، في ربط فريد مع القارة الإفريقية، تلعب فيه المعدّيات دوراً رئيسياً، رغم ما أنشأته مصر على مدار العقود الثلاثة الأخيرة من أنفاق وجسور، بلغ عددها عشرة أنفاق وجسور عائمة، إلى جانب أول جسر معلّق شيّد فوق قناة السويس، يستوعب عبور 50 ألف سيارة تقريباً، يومياً، ويشكل أحد الوسائل الرئيسية لعبور القناة، بجانب الأنفاق والجسور العائمة.

مجلة كل الأسرة

يرتفع الجسر المعلق فوق القناة بنحو 70 متراً، ويستوعب منذ افتتاحه في أكتوبر 2001 حركة السيارات اليومية العابرة إلى الشرق، لكن ذلك لم يؤثر في عمل المعدّيات التي تربط بين ضفتي القناة، في نقل الركاب والسيارات إلى الضفة الأخرى، والتي تنقل ما يقرب من مليون شخص من ساكني مدينتي بورفؤاد في بورسعيد، ونظيرتها بورتوفيق في السويس. وقد تأسست الأولى مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وسمّيت على اسم الملك فؤاد الأول، لتلحق بسابقتها بورتوفيق التي أسست عام 1866، عند بوغاز السويس، وسميت على اسم الخديوي توفيق.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

لم يكن لضاحية بورتوفيق وجود فوق خرائط الجغرافيا قبل هذا التاريخ، وقبل حفر قناة السويس، وقد أمر الخديوي توفيق ببنائها بعد حفر القناة، ليحول المنطقة التي كانت تحتوي على الردم الناتج عن عملية الحفر إلى مدينة ساحرة من العدم، فأطلق عليها اسمه، وخصصها لسكن المرشدين والربابنة الأجانب الذين كانوا يعملون في الشركة الفرنسية التي كانت تدير القناة في ذلك الوقت.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تمتد حدود بورتوفيق على مسافة كيلومترات عدّة، بمواجهة غاطس خليج السويس، وتتميز مثل شقيقتها بورفؤاد، بفللها التي تحمل الطابع الفرنسي، وبارتفاعاتها التي ﻻ تتجاوز طابقين، وحدائقها الغناء المزروعة بأجود أنواع أشجار المانجو، التي تم نقلها من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا، وجنوب شرق آسيا. وقد ظلت على حالها حتى تأميم القناة، قبل أن ينتقل الربابنة المصريون للسكن في تلك الفلل، وتدبّ الحياة في المدينة الصغيرة التي تربطها بالسويس معدّيتين تعملان على مدار الساعة، ضمن مجموعة المعديات العاملة على طول مجرى القناة، والتي يبلغ عددها نحو 36 معدّية، تعمل في مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس، قبل أن تضيف إليها هيئة القناة السويس عدداً آخر بعد افتتاح تفريعة القناة الجديدة.

مجلة كل الأسرة

لا يتوقف دور معدّيات قناة السويس عند كونها وسيلة رئيسية لنقل الركاب والعربات إلى الضفة الأخرى في قارة آسيا، لكنها تلعب دوراً ترفيهياً كبيراً، حيث يستخدمها زوار المدن الثلاث كوسيلة للنزهة المجانية في قناة السويس، حيث تتميز المعديات ببساطة بنائها التي تحاكي العبارات التي كانت تعمل في نهر السين، ولكن بلمسات مصرية، ومن أشهرها المعدّيات التي تحمل اسم سيناء، وهي الأسرع والأكبر بين أسطول معدّيات هيئة قناة السويس، بفضل محركاتها الحديثة سويدية الصنع، التي تمكنها من عبور القناة في 10 دقائق فقط. ويقول يوسف إبراهيم، وهو قائد إحدى تلك المعدّيات: «قيادة المعدّية نموذج مصغر لقيادة السفن الكبيرة، لكنها تحتاج إلى انتباه ويقظة كبيرين، بخاصة عند تنفيذ عمليتي الإقلاع والرسوّ على الرصيف البحري، إلى جانب الانتباه عند الاقتراب من السفن العملاقة التي تعبر القناة على مدار الساعة، ومن بينها سفن وبوارج حربية».

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

وتشترط هيئة قناة السويس في تعيين سائقي المعدّيات أن يكون من خريجي مدارس البحرية التابعة لها، حيث يخضع هؤلاء إلى فترة دراسة تستمر لمدة أربع سنوات، إلى جانب حصولهم على دورات تدريبية مستمرة، للتعامل مع تطور أنواع المعدّيات، وهو أمر أساسي يتعين على الذين يتولون قيادتها اجتيازه، منذ أول معدّية بدأت العمل بشكل فعلي بعد إنشاء مدينة بورفؤاد. وقد كانت عملية العبور إلى المدينة قبل تدشين المعديات تتم بواسطة القوارب الخشبية واللانشات الصغيرة. ويبيّن عبده هاشم، وهو أحد الربابنة الذين يعملون على معدّية بورفؤاد: «أعمل بتلك المهنة منذ ما يزيد على عشر سنوات، منذ تخرجت في مدرسة «الابارانتيه»، وهي أحد أشهر مراكز التدريب التابعة لهيئة القناة، حيث تستمر مناوبة العمل لمدة ثماني ساعات، قبل أن أقوم بتسليم المهمة لزميل آخر».

مجلة كل الأسرة

تتميز معدّيات القناة بتصميمها البسيط، حيث خصصت مساحة طويلة للسيارات تحيط بها مجموعة من الصالونات الفاخرة المخصصة للركاب، ما يجعل منها نزهة مجانية للراغبين في الاستمتاع بهواء البحر المنعش، ومداعبة طيور النورس التي تستقبل الركاب في بهجة، نظراً لما يلقونه إليها من طعام.

مجلة كل الأسرة

تبدو المعدّية التي تربط بين حي بورفؤاد الهادئ على الضفة الشرقية للقناة ومدينة بورسعيد، نموذجاً مصغراً لملامح الحياة في المدينة الساحلية التي تطل على المتوسط من جهة، وعلى قناة السويس من جهة أخرى، إذ تنقل المعدّية ما يقرب من مئة ألف شخص يومياً، من ساكني بورفؤاد، والطلاب الدارسين في الجامعة، والعاملين في مشروعات شرق بورسعيد، فيما يعد رصيف المعدّية قبلة لهواة صيد الأسماك، لممارسة هوايتهم المفضلة، والاستمتاع بمشهد السفن المارة بالقناة التي توجّه التحية للعابرين دائماّ بإطلاق النفير.

مجلة كل الأسرة

تعمل معدّيات القناة على مدار الساعة يومياً، من دون توقف، باستثناء فترات قصيرة تخصص لأعمال الصيانة الدورية والتفتيش الفني، ويتيح التشغيل المستمر للركاب التنقل في أيّ وقت بين ضفتي القناة، سواء في الساعات الأولى من الفجر، أو خلال الليل، ما يضيف عنصر الأمان والاستقرار إلى حركة النقل، التي تربط، في حقيقة الأمر، بين قارتين، بكلفة رمزية للسيارات، وخدمة شبه مجانية للناس.

* تصوير:  أحمد شاكر

اقرأ أيضاً: قناة السويس... شريان الأرض وجسر الحضارات