06 نوفمبر 2025

من عجائب الدنيا السبع القديمة... «فنار فاروس» بالإسكندرية وحكايات عتيقة لذاكرة البحر

محرر متعاون - مكتب القاهرة

مجلة كل الأسرة

ينتصب فنار الإسكندرية الجديد في مواجهة زرقة المتوسط، مثل مدوّنة عظيمة تروي للعابرين فصلاً من حكايات قديمة، مثلت فيها الفنارات جزءاً لا يتجزأ من تراث مصر البحري، باعتبارها واحدة من أقدم البلدان التي احترفت بناء الفنارات، لإرشاد السفن العابرة، وتسيير الملاحة البحرية.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

يصنف علماء التاريخ فنار «فاروس» القديم بالإسكندرية، وهو غير الفنار القائم حالياً في مواجهة قصر المنتزه، فوق الجزيرة التي تحمل اسمه، والذي يرجع تاريخ بنائه إلى عصر السلطان قايتباي، باعتباره أحد أقدم الفنارات في ظهرت في العالم القديم، والتي أسست فيما بعد لما يُعرف بعلم الفنارات، «الفارولوجي»، وهو العلم الذي رصد حركة بناء الفنارات على شواطئ المتوسط، واختصت على مدار قرون بعيدة بإرشاد السفن إلى الموانئ من مسافة بعيدة، فضلاً عن تحديد موقع سير السفن أثناء عملية الإبحار، والاهتداء بأضوائها في ظلمات الليل، لتجنب الاصطدام بالصخور عند الشاطئ.

مجلة كل الأسرة

يرجع تاريخ إنشاء فنار فاروس القديم، الذي صنف ضمن عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، إلى عام 270 قبل الميلاد، قبل أن يلحق به بعد قرون بعيدة فنار بورسعيد، في نهايات القرن الثامن عشر، لإنارة مدخل قناة السويس، وإرشاد السفن لحمايتها من حوادث الغرق، إلى جانب عدد آخر من الفنارات في مناطق متفرقة من الساحل المصري في رشيد، ودمياط، والبرلس، وإن ظلّ فنار فاروس يمثل نقطة فاصلة في التراث البحري المصري.

مجلة كل الأسرة

ويرجع كثير من المؤرخين انهيار فنار فاروس القديم إلى زلزال ضخم ضرب مصر في العصور السحيقة، لينتهي مصير هذا الفنار أسفل مياه البحر، قبل أن ُيعثر على جزء كبير من الحجارة التي استخدمت في بنائه غارقة، في المنطقة المحيطة بقلعة قايتباي الحالية، ليستخدمها السلطان المملوكي قايتباي في بناء قلعته التي لا تزال صامدة حتى اليوم، في مواجهة الفنار الجديد.

مجلة كل الأسرة

ومنذ سنوات، ومصر تخطط لإعادة إحياء فنار الإسكندرية القديم، وفي سبيل ذلك، وقّعت مع الصين مطلع عام 2010 اتفاقاً مبدئياً على مشروع سياحي ضخم، يستهدف إعادة بناء الفنار، بنفس تصميماته التاريخية، وطرازه المعماري. ويقول الدكتور طارق القيعى، الذي شغل لفترة رئيس المجلس المحلي السابق لمحافظة الإسكندرية، إن مشروع إحياء المنارة هو في حقيقته مشروع سياحي عالمي، قادر على إعادة الإسكندرية إلى صدارة الأحداث العالمية السياحية، وأن تعود إحدى النقاط المضيئة الجاذبة للسياحة الأورومتوسطية، بخاصة للمراكب السياحية الكبرى، من خلال مزار سياحي يحظى بطابع عالمي.

مجلة كل الأسرة

ويضيف القيعي: «حصل مشروع إحياء منارة الإسكندرية على موافقة مجلس الوزراء في عام 2010، حيث يستهدف المشروع إعادة بناء المنار، بنفس التصاميم التاريخية للمنارة القديمة التي كانت تتميز بالطابع المعماري البطلمي، مع إضافة خدمات سياحية بمستوى عالمي، تتضمن غرفاً فندقية، وأنشطة سياحية أخرى، إلى جانب مسرح مفتوح للآثار الغارقة. وقد تقدمت الصين بالفعل، بعدد من العروض للمشاركة في بناء الفنار، من خلال نظام البناء والتشييد، مقابل عوائد اقتصادية لعدة سنوات، تصبح بعدها كل هذه المنشآت ملكية خالصة لمصر، التي شرعت، بالفعل، في التواصل مع منظمة اليونسكو، لتكون راعية لهذا المشروع الكبير، الذي توقف فجأة.

مجلة كل الأسرة

لا يعرف أحد على وجه الدقة التاريـخ الحقيقي لبنـاء فنـار الإسكندرية القديم، لكن كثير من الدراسات التاريخية تذهب إلى أنه ربما يكون قد تم إنشـاؤه عـام 280 قبـل الميـلاد، علـى يـد بطليموس الأول، وقد أمـر الأخير ببنائـه، لكن البناء لم ينته إلا في عهـد ابنـه بطليموس الثـاني، حيث استغرقت عمليـة البنـاء مـا بيـن اثنـي عشـر، وعشريـن عامـاً، وهي الفترة في ترك فيها بطليموس الأول الحكـم لابنـه، الذي أشرف علـى العديـد مـن المشـاريع الكبيـرة الأخـرى التي بدأهـا والـده، وعلى رأسها منـار الإسكندرية الذي اكتمل بناؤه بحلـول عـام 270 قبـل الميلاد، وقد بلغت كلفة البناء وقتها ما يقدر بنحو ثمانمئة من سـبائك الفضـة، أي مـا يعـادل تقربيـاً ثلاثـة ملاييـن جنيـه اسـترليني، بحسابات هذه الأيام.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

يقدم ستـرابو، وهو أحـد أوائـل الفلاسفة الجغرافيـين الذين زاروا مدينـة الإسكندرية عـام 24 قبـل الميلاد، وصفـاً دقيقـاً للفنار العظيم الذي أقيم على جزيـرة فـاروس، ممثلاً في هذا البرج الكبير الذي يطل على زرقة المتوسط، المبني مـن الرخـام الأبيض، مشيراً إلى أنه كان يتكـون مـن طبقـات عدّة، وتعلوه شـعلة كبيـرة تتوهـج عند قمتـه لترشد المراكب في رحلاتها من، والى الإسكندرية، والتي كانت تتم عبر ميناءين صغيرين، إلى جانب الميناء الكبير الذي كان يتصدّره الفنار في ذاك الزمان السحيق، وهو الوصف الذي يكاد يتطابق مع وصف يوليــوس قيصــر الذي دخل الإسكندرية عــام 48 قبــل الميلاد، ووصــف جزيــرة فــاروس التي عســكر فيهــا أثنــاء حـرب الإسكندرية، والمنـارة القائمة فـوقها، التي تظهر كبـرج مرتفـع يتمتـع بتصميـم معـماري رائـع، يتصـل به جسـر يبلـغ طولـه نحـو 900 قـدم، ويعـرف بالهيبتاسـتاديوم، وقد كان هذا الجسر هو المدخـل الرئيسي للمينـاء.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

ويذهب كثير من المؤرخين المحدثين، ومن بينهم المؤرخ الشهير ابـن إيـاس، إلى أن قلعـة قايتبـاي الكائنة في موقعها حالياً، قد بنيت في موقع فنار فاروس العظيم، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع الرواية التي تقول بأن قايتباي أمر ببناء قلعته من بقايا ما عثر عليه من حجارة الفنار العظيم، وهو ما يبدو واضحاً في أبعـاد جوانـب فنار فـاروس حسب الوصف القديم، والتي تتطابـق هي الأخرى مـع أبعـاد جوانـب قلعـة قايتبـاي، التي لها نفـس القياسـات التي ذكرهـا المؤرخ الكبير ابـن الصايـغ. وتعد هذه من الأدلة القويـة على أن فنار فـاروس القديم كان يقـع في نفـس موقـع قلعـة قايتبـاي الحالية، وهو ما يتجلى في أعمـدتها المصنوعـة مـن الجرانيـت، وفيجـان الرخاميـة المدمجـة في جـدران القلعـة، وكذلـك الفسيفسـاء الموجودة في بعـض غرفهـا، والتي يذهب كثير من المعماريين إلى أنها تعـود إلي فترات مـا قبـل الفتـح الإسلامي لمصر.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

من جانبه، يقدم الرحالة العربي أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي، الشهير بابن الشيخ، وصفاً مفصلاً لمنارة الإسكندرية وقد زارها في عام 561 هجرية، ما يعني أن المنارة كانت لا تزال قائمة حتى هذا التاريخ، مشيراً إلى أنها تقـع في جزيـرة صغيـرة في الماء، وتبعـد عـن المدينـة مسـافة ميـل، وقـد بنـي رصيـف حجـري بـن المنـارة والـبر، يبلـغ طولـه سـتمئة ذراع، وعرضـه عـشرين ذراعـاً، بينما يصـل ارتفاعـه فـوق المـاء إلى نحو ثلاث أذرع، بحيـث يمكـن للمشـاة السيـر عليـه، حسـب حالـة البحـر، فيما تقع المنارة في آخــر الجزيــرة، وهــي مربعــة الشــكل، وأبعــاد كل جانــب منهــا خمس وأربعــون باعــاً، حيث يبــدأ البنـاء مـن أسـفل البحـر، وهـو أوسـع في البدايـة ثـم يضيـق تدريجيـاً كلـما ارتفعـت، وقد تـم بنـاء المنـارة وأحكـم إلصاقهـا باســتخدام الرصــاص الــذي تــم تفريغــه في أقفــال مــن حديــد، وهذا هو الجزء المتبقي من البنـاء القديـم الذي كان قد انهـار في المـاضي، ولم يتبق منه سوى هذه الأطلال.

* تصوير – أحمد شاكر

اقرأ أيضاً: جولة في «قصر المجوهرات» الملكية بالإسكندرية