
«اعرف نفسك»، عبارة نقرأها على مدخل معبد مدينة «ديلف» في اليونان القديمة. من أنا حقيقة؟ إنه سؤال جوهري في حياتنا، ولكن كيف تكون الإجابة عنه؟ وهل نستطيع حقاً أن نجيب عنه؟

يدعونا هذا الكتاب «اعرف نفسك»، من تأليف جوزيه لو روا، إلى القيام برحلة نحو مركز ذاتنا حيث تنتظرنا اكتشافات عميقة ومدهشة.

لماذا السعي إلى معرفة النفس؟
ثمة إجابات ثلاث على الأقل عن هذا السؤال، أولاها أنه منذ فجر الحضارة اليونانية اعتبرت معرفة الذات أنها تقود إلى الحكمة. وقد كان زائر معبد أبولو، إذّاك، باستطاعته أن يقرأ الأمر الموجه إليه، والذي يحثه على معرفة ذاته محفوراً أعلى مدخل المعبد.
وقد أدخل سقراط عبارة «اعرف نفسك» في الفلسفة بوصفها مفتاح الحكمة، إذ يقول: «من المستحيل أن نصير أحسن مما نحن عليه إن كنا لا نعرف ذاتنا، ومن المستحيل أن نكون سعداء إن كنا لا نعرف ما يلائمنا، وما لا يلائمنا» .وكذلك الأمر بالنسبة إلى فلسفة الـ«أدفايتا فيدانتا» الهندية التي تقول إنه يستحيل بلوغ السعادة من دون أن نعرف ذاتنا.
السبب الثاني لمعرفة الذات هو الفضول والدهشة. هل سأعيش ثم سأموت من دون أن أطرح على نفسي، ولو مرة واحدة، وبصدق، السؤال التالي: من أنا؟
هل أستطيع أن أمضي حياتي بأكملها في الظلام في ما يتعلق بما هو الأقرب إليّ، أي أنا؟ وما معنى الحياة إن كان من يعيشها يجهل نفسه؟ لا شك في أن مسألة هويتنا هي واحدة من أهم الأسئلة في حياتنا، وقد نقول الأهم. الحياة التي نحياها من دون أن معرفة ذاتنا هي حياة في الظلام، لا بوصلة فيها، ولا نقطة ارتكاز. أنا موجود، أنا حي، هذا أكيد، ولكن من أنا؟ هو سؤال ينبع من الدهشة، ولا تكون معرفة الذات ممكنة ما لم أكن قادراً على أن أندهش ممّا هو الأكثر بداهة، أي الأنا ذاتها. وقد جعل أفلاطون وأرسطو من الدهشة الأصل الحقيقي للفلسفة، من دونها ما من سؤال سيطرح، وما من بحث سيبدأ. أليس مشروعاً أن نلتفت نحو الذات، ولو مرة واحدة، ونسألها بصدق عن هذا الذي هو أنا؟
السبب الثالث الذي يحثنا على المضي في معرفة الذات هو بلا شك الأهم، وينبع من فلسفات الماضي الكبرى، وروحانياته الأصيلة التي تقول لنا إنه في أعماقنا يكمن كنز لا يقدر بثمن، وهو المطلق. وجملة «اعرف نفسك» لها تكملة تقول «اعرف نفسك وستعرف الكون».

ولكن ألا نعرف أنفسنا من قبل أن نبحث عن معرفتها؟
ألست أنا بكليّتي؟ فما فائدة أن أسعى لمعرفة أكثر شيء أعرفه، وهو أنا؟
صحيح أنه قد يبدو لنا الدرب الذي يقود إلى معرفة الذات من الذات غريباً بعض الشيء، كما لو أنني لا أتطابق مع نفسي، وكما لو أن ثمة شرخاً في داخلي. ربما لهذا السبب لا نطرح سؤال «من أنا؟»، على أنفسنا إذ نظن أننا نعرفها. وقد يبدو السؤال ضرباً من الجنون للبعض، ألست أنا أنا، فلماذا السعي إلى معرفتي أنا؟
هذا مؤكد! لكن في هذه الحالة ألن أشعر بالإرباك إذا ما سألني أحدهم أن أحدّد من أنا بدقة أكبر؟ ولكن أيضاً، إن هذا القرب الشديد من الذات قد يطرح بحد ذاته مشكلة، فالأنا تجهل من هي، كما أنها علاوة على هذا تجهل أنها تجهل. نفهم أن ثمة جهلاً مزدوجاً، وهو جهل الذات، وجهل الجهل بالذات. لهذا السبب نادرون هم من يسعون إلى تحديد هويتهم، فحتى تبحث عن شيء يجب أن تدرك أنك قد أضعته.
يجب أن نترك سؤال «من أنا؟» يقودنا إلى منبع كياننا، ولهذا يجب أن نتخلى، بقدر الإمكان، عن معوّقاتنا، وعن أحكامنا المسبقة وعن الأفكار الجاهزة. يجب أن نضع جانباً ما نظن أننا نعرفه عن حالنا، فمعرفة الذات تتطلب أن نعرف كيف نفرغ أنفسنا من كل المعلومات الخارجية التي لا حاجة إليها، وتتطلب أن ننظر بعين جديدة إلى كل ما كنا نظن أننا نعرفه جيداً.
هذه العودة إلى أنفسنا يجب أن ترافقها شجاعة إعادة النظر في كل يقينياتنا. هذا الشك الجذري ضروري وصعب، في كل أنواع البحث، وعلى الأخص في البحث عن معرفة الذات، وعن الهوية. لقد بنينا حياتنا انطلاقاً من فكرة معيّنة عن ذاتنا، لذا نكره إعادة النظر في ما هو أساس وجودنا.
لماذا تبدو معرفة الذات صعبة؟
للوهلة الأولى، نظن أنه من السهل معرفة الذات، فإنّ أنا هي أنا، وأنا لست شخصاً آخر، وبالتالي، يجب أن أكون الشخص الذي أعرفه أفضل معرفة. الآخر، سواء أكان زوجاً، أو صديقاً، أو ابناً، يظل بعيداً مني، على نوع من مسافة. بماذا يفكر؟ ماذا يريد؟ هذا ما لا أستطيع معرفته. لكن لا مسافة مني إلى نفسي، إنها صفر مسافة، وهذا التقارب بالتحديد هو سبب المشكلة.
لدينا في البداية مشكلة يسهل التعرف إليها، وهي صعوبة الحكم على الذات بطريقة موضوعية. فهل نحن محايدين في ما يخص عيوبنا ومحاسننا؟ ألن نقلل من الأولى ونبالغ في الثانية؟ إنها الصعوبة التي يشير إليها أرسطو حين يقول: «أن نتعلم معرفة الذات أمر شديد الصعوبة، كما أنه يشكل متعة كبيرة في الوقت ذاته. لكن لا يمكننا أن نتأمل في أنفسنا، والإثبات على هذا، الملامة التي نوجهها إلى الآخرين من دون أن ندرك أننا نقترف الأخطاء ذاتها...»، نحن أسرى حب الذات، ويصعب علينا أن ننظر بوضوح إلى عيوبنا ومحاسننا.
لكن فلاسفة اليونان قد حدّدوا مشكلة أكبر في معرفة الذات، وهي مشكلة منطقية، حيث إن الباحث وموضوع البحث هو واحد: أنا أبحث عن أنا، ما حدا بالكثير من الفلاسفة إلى القول إن معرفة النفس مستحيلة، لكن هذا لم يمنع آخرين ممن كتبوا سير حياتهم ويومياتهم، من وصف أنفسهم والكتابة عنها، ما يشهد على أن الفرد قادر على أن يعرف نفسه. أما حل هذا التناقض المنطقي فهو يكمن في القدرة الانعكاسية لدى الفكر الإنساني، أي قدرته على الذهاب والإياب، بين ذاته وبين الموضوع الذي يدرسه، أي، قدرته على أن يعي ذاته. فالوعي هو كالشمس التي تنير العالم، وتنير ذاتها.
حين تعود النفس إلى ذاتها وتنغمس في وجودها يصير اللقاء مع الأنا ممكناً، هو ملامسة ورؤية، وحدس عن الذات من الذات. قد يبدو هذا الحدس في أيّ لحظة: عند تأمل منظر طبيعي، أو عمل فني، في لحظة استرخاء، في علاقة حب... لكننا لا نتعرف في خضم هذا الفرح إلى هويتنا الحقيقية ليظل ما جرى تجربة مؤقتة، فالحجاب القائم بيننا وبين ذاتنا قد أزيح بعض الشيء، لكنه ينغلق بسرعة من جديد، ولا يبقى لنا سوى الذكرى الجميلة المرتبطة بهذا الظرف، أو ذاك.

ما هي نقطة البداية؟
حتى نبدأ البحث عن الأنا الذي هو الذاتية، يجب أن نتبع طريقة النفي، أي أن نتعرف إلى ما هو ليس أنا، وحذف كل ما يمكن أن يشكل موضوعاً بالنسبة إلى الوعي. ستقودنا هذا الطريقة من عالم المظاهر إلى عالم الجوهر، من الصور إلى الواقع، ومن الأشياء التي تماهت معها الذات إلى ما هي حقاً.
لقد تماهينا مع صور عن الذات، ومع مظاهر، كما فعل نرجس، وأحببنا هذه المظاهر، وهذا الحب يحول دون أن نوجه نظرة واضحة إلى أنفسنا تمكننا من رؤيتها حقاً. فما من صورة هي نحن، هي مجرد أشياء تقع على الأطراف البعيدة من المركز، من حقيقة الأنا.
علينا أن نرجع إلى مركز ذاتنا، ونتخلى عن كل الصور التي التحفت بها الأنا، وألصقتها بنفسها، وضاعت فيها من أجل أن نستعيد طبيعتنا الحقيقية، ونميّزها عن هذه المظاهر المتعددة. «حين نقشر بصلة بلا توقف، كل الجلد يزول ولا يبقى شيء منها. وكذلك الأمر حين نحلل الـ «إيغو» لا نجد أي كيان فيه»، بحسب قول الحكيم البنغالي، راماكريشنا.
في سياق بحثنا عن الأنا والسعي إلى معرفتها، سنقوم بتقشير بصلة الأنا للبحث عمّا يكمن في قلبها، وتحت مختلف الطبقات التي تغطيها.
اقرأ أيضاً: تحدّث مع نفسك بصراحة ولا تُخِفها بلا فائدة