
هل أعيش بسلام مع نفسي؟ وما هي تزكية النفس؟ هل هي ضرورة، أم ترف؟
أسئلة عدّة تجوب خاطرنا ونحن نعيش زحام الحياة وصخبها، لدرجة نصل فيها إلى قراءة موضوعية حول أهمية العناية بذواتنا كضرورة نفسية. وفي هذا السياق، حيث «إرباكات» سلم القيم، و«سيطرة» المظاهر الزائفة، تؤثر في التوازن الداخلي، لا بدّ من إعادة الاعتبار إلى هذا التوازن داخلنا، والذي يشكل ركيزة أساسية للسلام النفسي.
فكيف تكون تزكية النفس؟ وما هي الآليات لتنمية وعينا، الأخلاقي والروحي، لمواجهة «الانفصام» الذي نشهده في مجتمعنا، سواء على صعيد القيم، أو الممارسات؟ وكيف تكون الخطوات نحو «التصالح مع ذواتنا» وتعزيز السلام الداخلي، والاستقرار النفسي؟

تعرّف الدكتور منى جمال، لايف كوتش ومستشارة في التوازن الحياتي والطاقة، مفهوم تزكية النفس باعتبارها «عملية لتطهير النفس وتهذيبها، والتحلي بالخير والفضائل».
تقول: «تزكية النفس هي دعوة سماوية قبل أن تكون نفسية. فالله سبحانه وتعالى لم يدعُنا إلى الكمال، بل إلى التزكية بقوله تعالى «قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها»، وبالتالي، فالتزكية هي مسؤولية داخلية تجاه النفس، ودعوة لتكريم ذاتك، لتكون كما أرادك الله، إنساناً حرّاً، في باطنه قبل ظاهره».
تلك الخطوة غير سهلة في ظلّ ما تحدثنا به سابقاّ عن الاختلال في سلّم القيم. وتتوافق د.جمال مع هذه القراءة بالإشارة إلى «أنّ كثيراً منا يعانون القلق، والغضب، والشعور بالوحدة، كما التورط في علاقات مرهقة تستنزف طاقتهم من دون وعي، مع تكرّر العلاقات السامة والأنماط السلوكية المؤذية، حيث يجدون أنفسهم وسط زحام خارجي، وضجيج داخلي».
هذا الواقع يرخي بثقله على الفرد، وتتبدّى تزكية النفس كـ«ضرورة»، حيث يصبح سؤال: من أنا؟ وماذا أحتاج نفسياً؟ أكثر أهمية من أيّ وقت مضى، كما تؤكد د.منى.

ماذا يحدث عند إهمال النفس وعدم إشباع احتياجاتك؟
تشرح د. منى جمال: «إشباع الاحتياجات النفسية أساس للحفاظ على التوازن العاطفي، وعلى تفكير واقعي سليم، وعلاقات صحية خالية من الانفجار، أو الانهيار».
وتوضح: «حين لا تُشبَع هذه الاحتياجات، يعاني المرء اضطرابات عدّة، مثل :
- يبدأ الجفاف العاطفي بالظهور.
- يقل الإحساس بالقيمة الذاتية.
- يظهر التعلق المؤذي، أو الشعور المبالغ فيه بالذنب.
- السعي الدائم لإرضاء الآخرين خوفاً من الرفض.
- تشوّهات في طريقة التفكير. يبدأ الإنسان بتفسير كل موقف على أنه تهديد، وكل اختلاف على أنه رفض.
- يُصبح أكثر عرضة للتفكير السلبي، مثل: «أنا غير كافٍ»، «لا أحد يهتم»، «لا معنى لما أفعله».
- غضب داخلي متراكم لا يظهر بالضرورة في صورة صراخ، بل في صورة انفعال مفرط على مواقف صغيرة، أو انسحاب كامل من العلاقات.
- غضب صامت يظهر في الأحلام، أو في طريقة الحديث مع النفس.
- أعراض جسدية: أرق، نوبات هلع، إرهاق دائم، أو اضطرابات في المناعة والهضم، لأن الجسم والعقل لا ينفصلان في الألم.

الخطوات الأولى لتزكية النفس
تزوّدنا مستشارة التوازن الحياتي بأبرز الخطوات نحو تزكية النفس، أهمها:
1. فهم النفس هو الخطوة الأولى نحو الحياة ومفتاح السلام الداخلي، إذ لا بد من:
- أن تعي مشاعرك، احتياجاتك، وحدودك .
- أن تُدرك أسباب تكرار بعض الأنماط في علاقاتك.
- أن تتصالح مع جوانبك المضيئة والمظلمة معاً.
2. تعلّم متى تقول «نعم» بدافع الحب، ومتى تقول «لا» بدافع الحماية، من دون أن تشعر بالذنب، أو الخوف من رفض الآخرين.
3. مواجهة النقد: حين تعرف من أنت، وما الذي يحركّك، وما الذي لا يعكس حقيقتك، لن يهزك رأي عابر، ولا تعليق جارح.
4. الوعي الذاتي: أول دعائم الازدهار النفسي، وهو ما يمنحك القدرة على أن تدير انفعالاتك بذكاء ورفق.
5. تلبية احتياجاتك النفسية: هناك احتياجات نفسية أساسية تغذّي استقرار الإنسان العاطفي، منها:
- القبول كما هو، من دون شروط.
- التقدير: من الهام أن تعرف من أنت وتقدّر نفسك. كن لنفسك وطناً، ولا تنتظر التصفيق، أو الفهم من الآخرين.
- الشعور بالأمان. تزكية النفس تمنحك سلامك الداخلي.
- الدعم وقت الألم: تعلّم أن تكون أنت داعم نفسك الأول. أعطِ نفسك ما تستحق، وِعش متصالحاً مع ذاتك.
فهمك لذاتك يحميك من الانهيار والنقد... والمساعدة الحقيقية تتطلب تعافياً داخلياً وتدريباً مستمراً
6. كن أنت نقطة التوازن في حياتك: كن على يقين أن فهمك لذاتك هو محور التوازن لحياتك، ما يتطلب تعافياً داخلياً وتشافياً، وتدريباً على استنباط السلام من ركام الأحزان. ولا يمنع الاستعانة بموجّه أو مستشار، ولكن مع التركيز على دورك في دعم هذا المسار.

وتلفت د. منى جمال إلى أن الدعم الحقيقي «هو مساندة لا مسايرة وإنصات خالص لاحتياج الآخر».
ماذا إن لم أجد من يدعمني؟
تجيب: «عندما تفهم نفسك، تكتشف أن أعظم دعم هو أن تفهم ذاتك حين لا يفهمك أحد. المعرفة النفسية تمنحك ما يسميه علم النفس الإيجابي المرونة الذاتية؛ أي أن تمتلك القدرة على تهدئة ذاتك، وإعادة توازنك، والوقوف من جديد، من دون أن تنتظر أحداً يمسك بيدك». وتخلص: «في زمن الضغوطات والصخب المستمر، لم تعد تزكية النفس ترفاً، بقدر ما أمست مشروع نجاة».