29 سبتمبر 2025

شبرا بلولة... أشهر قرية مصرية تزين العالم بأجمل أنواع العطور

محرر متعاون - مكتب القاهرة

مجلة كل الأسرة

تفتح قرية شبرا بلولة، التابعة لمركز قطور بمحافظة الغربية، عيونها كل صباح على زهور الياسمين البيضاء الناعمة، ومئات من أيادي فتياتها الرقيقة، وهنّ يعملن بهمّة على قطف الزهور اليانعة، التي تمتد على مرمى البصر في أكثر من ألفي فدان، خصصت لزراعة مختلف النباتات العطرية، وعلى رأسها أشجار الياسمين، التي تزيد على مليوني شجرة، ما يجعل من تلك القرية الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على خمسة عشر ألف نسمة، عاصمة زراعة الياسمين في مصر، والشرق الأوسط.

مجلة كل الأسرة

حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، كانت شبرا بلولة واحدة من آلاف القرى المنسية في دلتا مصر، قبل أن يحوّلها أحد أبنائها المغتربين إلى مركز لزراعة الياسمين، وغيره من النباتات العطرية. إذ لا تزال قصة أحمد فخري حاضرة في أذهان الأغلبية العظمى من أبناء القرية، عندما أحضر لهم، في تلك الزمانات البعيدة، أولى شتلات الياسمين الفرنسي، ليقوم بزراعتها في أرضه، قبل أن تزهر الشتلات، وتحوّل تلك الإقطاعية الصغيرة التي لم تكن تزيد مساحتها على مئة فدان، إلى ما يشبه جنة على أرض القرية التي كانت لا تزال تحرص على الزراعات التقليدية المعروفة، مثل القمح، والذرة، والشعير، وغيرها من الزراعات الأخرى.

مجلة كل الأسرة

لم تمرّ سوى سنوات قليلة، حتى فكر ألاب المؤسس لزراعة الياسمين في شبرا بلولة، في خطوته الثانية لاستثمار زراعته الغريبة، إذ سرعان ما شرع في بناء أول مصنع لاستخلاص الزيوت والعجائن العطرية من زهور الياسمين، وهي النقطة التي مثلت نقطة تحول كبرى في حياة تلك القرية الصغيرة، وسكانها الذين لم يكن تعدادهم يزيد في ذلك الوقت على ثلاثة آلاف نسمة. وسرعان ما انخرط الشباب منهم في العمل بإقطاعية الباشا، قبل أن ينقلوا تجاربهم للأجيال الجديدة، التي شرعت هي الأخرى في خوض التجربة، بالتوسع في زراعة الياسمين، واستبداله بالزراعات التقليدية التي حرص عليها الأجداد، فالأرباح أكبر بكثير، ومشهد الزهور البيضاء وهي تزيّن الحقول المترامية الأطراف يسحر الألباب.

مجلة كل الأسرة

وعلى مدار عقود، توسعت شبرا بلولة في زراعة الياسمين، حتى بلغت المساحة المزروعة فيها بتلك الأشجار البديعة، ما يزيد على 2180 فداناً، تضم ما يقدّر بنحو 2.18 مليون شجرة ياسمين، تنتج حسب إحصاءات الاتحاد الدولي للزيوت والعطور (IFEAT)، ما يقارب 6 أطنان من عجينة الياسمين، سنوياً، يستخلص منها نحو 3 أطنان من الزيت العطري المركّز، الذي قد يتجاوز سعر الجرام الواحد منه 3000 دولار، في بعض الأحيان، ويتم تصديره إلى كبريات معامل صناعة العطور في مختلف دول العالم، ويدر عائداً اقتصادياً كبيراً، يقدر بنحو 6.5 مليون دولار، سنوياً، ما لعب دوراً كبيراً في إحداث تغيير ضخم في حياة الناس في تلك القرية الصغيرة، التي تستقبل مواسم حصاد الياسمين بالبهجة الغامرة.

مجلة كل الأسرة

يمتد موسم قطف زهور الياسمين بداية من شهر يونيو كل عام، ويستمر حتى نهايات نوفمبر، وهي المدة التي تنقلب فيها حياة سكان القرية رأساً على عقب، فلا مجال هنا للسهر، أو ضياع الوقت، إذ يتعين على الجميع أن يخلدوا إلى النوم مبكراً، لأن الحصاد يتطلب أن يتم في الساعات الأولى من الصباح، وقبل شروق الشمس، وهي الفترة التي تكون فيها الزهرة البيضاء في كامل تألقها، وعنفوانها.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

ومع اتساع المساحات المزروعة بالياسمين في شبرا بلولة، وقلّة الأيدي العاملة المدرّبة على التقاط زهور الياسمين، تحوّل موسم الحصاد إلى فرصة ذهبية للآلاف من فتيات القرى المجاورة، اللواتي ينتشرن في ساعات الصباح الأولى داخل حقول الياسمين لقطف زهوره الندية، والحصول في نهاية الأسبوع على أجرٍ مجزٍ. تقول عفاف محمود، التي تقيم في قرية قريبة من شبرا بلولة، وتحرص على العمل طوال موسم الحصاد: «هذا الأجر ساعد كثيراً من الفتيات على تجهيز أنفسهن للزفاف، وشراء ما يحتجنه من متطلبات، وهو لا يحتاج إلى مجهود عضلي كبير، وإنما التعامل بالرقة المطلوبة مع تلك الزهرة البيضاء فقط».

مجلة كل الأسرة

لا يقتصر حصاد الياسمين على الفتيات اليافعات في شبرا بلولة، وما حولها من قرى، لكنه يمتد الى الأكبر سنّاً، وإلى الرجال أيضاً، الذين يفضلون العمل في المناوبات الليلية، حيث يتم قطف الزهور يدوياً خلال ساعات الليل، في عملية دقيقة تستمر حتى الساعات الأولى قبل الفجر، لتبدأ بعدها مناوبات الفتيات والنسوة. ويؤكد إبراهيم سلامة، وهو احد الرجال الذين احترفوا العمل في مواسم الحصاد بشبرا بلولة «يجب أن يتم قطف الزهور في ساعات الليل، أو في الصباح الباكر، بعيداً عن حرارة الشمس، التي تتسبب بتبخّر الزيوت العطرية الثمينة من الزهرة، ما يفقدها قيمتها».

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

يعمل أكثر من 60 ألف عامل، بين رجل وفتاة وامرأة، في موسم حصاد الياسمين في شبرا بلولة، وضواحيها التي شرعت هي الأخرى في زراعة الياسمين، وأصبحت مصدر الرزق الرئيسي لكثير من المزارعين. لذلك، فإن المشهد يبدو مألوفاً للمئات من العمال وهم ينتشرون في الحقول المترامية الأطراف، ليقوموا بجمع الزهور، ونقلها بعد الحصاد إلى أقفاص مصنوعة من سعف النخل، ومنها إلى وحدات المعالجة، حيث تمرّ الزهرة بعمليات، دقيقة ومعقدة، لاستخلاص الزيوت، سواء بغمرها في المذيبات، أو بعملية تقطير دقيقة، قبل تحويلها إلى عجينة طرية، أو زيت عطري، لتبدأ بعد ذلك علمية التعبئة قبل إرسال المحصول إلى شركات التصدير التي تتولى شحنها إلى الخارج، لكبريات شركات العطور العالمية.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تُصدر قرية شبرا بلولة معظم إنتاجها إلى الخارج كمواد خام، ما يعني، حسبما يرى كثير من الخبراء الاقتصاديين، ضياع فرصة ضخمة لتحقيق قيمة مضافة أعلى، لو تمت صناعة العطور محلياً. ويبين حسين عبد الهادي، الخبير في الاقتصاد «يمكن استغلال تلك الثروة الضخمة على نحو أفضل، إذا ما اتجهنا إلى صناعة العطور محلياً، ومن ثم تصديرها ألي المنطقة العربية، وإلى ألأسواق الإفريقية. ما يحدث الآن هو هدر لتلك الثروة، رغم ما يجنيه المزارعون من أرباح كبيرة، يمكن أن تتضاعف إذا ما تمت عملية التصنيع كاملة في مصر». لكن الأمر لا يتوقف، حسبما يرى حسين، عند حد إنشاء مصانع كبري لإنتاج العطور محلياً، وإنما يتطلب أيضاً إنشاء مركز للأبحاث، تعمل على تطوير زراعة النباتات العطرية، وتقدم النصائح اللازمة للمزارعين، خصوصاً في ظل التغيّرات اللافتة في الأحوال الجوية، والتي يتوقع أن تؤثر كثيراً في تلك الزراعة الحيوية، في ظل الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

ولا يتوقف تميز شبرا بلولة عند حد احتلالها موقع الصدارة في زراعة الياسمين في مصر، لكنها تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى أحد المقاصد السياحية الهامة في دلتا مصر، إذ يحرص كثير من المصريين على زيارتها خلال مواسم حصاد الياسمين، للاستمتاع بتلك الأجواء الساحرة، والحقول المترامية الأطراف، وقد تزيّنت بالأبيض، ما فتح مصدر دخل جديد للعديد من سكان القرية، الذين باتوا يعملون في السياحة البيئية، إذ يمكن للزائر قضاء يوم كامل وسط تلك الأجواء الساحرة، مع الاستمتاع بأشهى المأكولات الريفية، بل والمشاركة أيضاً، على سبيل التجربة، في حصاد تلك الزهرة البيضاء المتوهجة بالجمال الآسر.

* تصوير: أحمد حماد