28 سبتمبر 2025

فن الشارع المعاصر... بوابة إلى عالم حضاري وراقٍ

رئيس قسم الشباب في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

كثيراً ما أثير الجدل حول تعريف فن الشارع، ولا يزال هذا الجدل قائماً بين مؤرّخي الفن، والمنظّرين الثقافيين. ولكن هذا لا يمنع من مناقشة ماهية هذا الفن الذي يراه البعض حركة فنية، لم تنتهِ، لذا لا يُمكن أن يكون له تاريخ بداية ونهاية واضحيْن.

وفنّ الشارع ليس أسلوباً فنياً واحداً، إنما هو فن يجتمع في بوتقة فنون مختلفة، من فن الجرافيتي إلى فن الملصقات، وفن الغزل، والفن الرقمي، وغير ذلك. ولكن يبقى فن الشارع، بلا شك، تعبيراً فنياً مميّزاً، له علاقة بالمراحل السياسة، والتغيّرات الاجتماعية، والأنماط الثقافية، والثورات والتمرّد، لذا أصبح جزءاً لا يتجزأ من الفن المعاصر، وأحد أساليبه الإبداعية.

ما هو فن الشارع؟

فن الشارع هو نوع فريد من الفنون الخارجية، وكما يوحي اسمه، هو فن مكانه الشارع، وقد لا ينظر كثير من الناس إلى هذا الفن كعمل فني جاد، لأنه ارتبط، لفترات ومراحل، بعمليات التخريب والاحتجاج. لكن هذا لا يبيح لنا الجزم أنه ليس فناً.

يشمل فن الشارع مجموعة متنوعة من الأعمال، مثل فن الجرافيتي، وفن الجرافيتي بالاستنسل، وفن الملصقات، والرسوم الحضرية... إلخ. لكن ارتباطه بفن الجرافيتي، بخاصة الرسم، هو ما يُصعّب على البعض تعريفه كشكل فني مُعتمَد.

مجلة كل الأسرة

ما هو الهدف من فن الشارع؟

من أهم أهداف فن الشارع أنه يُتيح للجميع حرية التعبير والإبداع. فمن خلاله، يُمكن لأيّ شخص أن يعبّر عن أفكاره ومشاعره، وأن يتواصل مع الناس. وقد استطاع فن الشارع التمرّد على المفاهيم القديمة التي كانت تنظر إلى الفنون التشكيلية كوسيلة استمتاع للنخبة، والطبقات الاجتماعية العليا.

من ناحية أخرى، يمكن وصف فن الشارع بأنه صوت المدينة، الذي يُخاطب الجماهير. لأجل ذلك، تكون المدينة التي تعجّ بفن الشارع مدينة نابضة بالحياة، حرّة، ومُبدعة، تُقدّر أصوات مواطنيها، وتشجعهم على التعبير عن أنفسهم بالطريقة التي يُريدونها.

لماذا يُبتكر فن الشارع؟

إن فن الشارع، في جوهره، أداة للتعبير عن الذات، له تأثير اجتماعي وسياسي كبير، وغالباً ما يكون استجابة مباشرة للقضايا المحلية في البيئة التي يعمل فيها الفنانون، بغضّ النظر عن مكان إقامتهم.

لذلك، قد يكشف فن الشارع الكثير من القضايا الاجتماعية، ويعرض واقع الأحياء، أو البلدات، أو المدن، أو الدول التي يُمارس فيها. كما أنه غالباً ما يُستخدم لجذب الانتباه إلى القضايا المعاصرة، ليكون صوتاً للفئات المهمّشة في المجتمع. ففي بعض البلدان، يُستخدم فن الشارع كوسيلة لمعارضة الظلم، الاجتماعي والسياسي، كما يستخدمه العديد من الفنانين لإيصال أصواتهم. وبذلك، يمكنهم أن يشكّلوا عنصراً حيوياً في أيّ مدينة، وصوتاً للفئات المهّمشة.

من ناحية أخرى، يُضفي فن الشارع طابعاً ديمقراطياً على الفن، فهو يتيح للناس، في جميع مستويات المجتمع، فرصة لمشاهدة الفن مجاناً، في بيئة مُيسّرة.

لماذا يحظى فن الشارع بهذه الشعبية؟

لا يُعدّ فن الشارع عنصراً أساسياً في هوية المدن حول العالم. لكنه يُسهم في بناء وتعريف الروح الجماعية والفردية، في المدينة. لذلك، لا يمكننا تجاهل الشعبية الواسعة التي اكتسبها هذا الفن بفضل أهميته الاجتماعية ،والسياسية، والسياحية، بل وحتى التجارية.

ويُعزى انتشار فن الشارع إلى سهولة الوصول إليه، ومشاهدته على نطاق واسع. فجدار مُزخرف في شارع مزدحم بمدينة ما، يُشاهده، يومياً، عدد أكبر من الناس، مقارنة بعمل فني تقليدي في متحف، أو معرض فني.

ومع تزايد شعبية فن الجرافيتي، وأشكال التعبير الحضري الأخرى، لم يعد يُنظر إليه على أنه تخريب، بل أصبح مناطق جذب سياحية. فالعديد من البلدات والمدن العالمية، اليوم، تقدم رحلات فنية لمشاهدة فن الشارع. وتجذب مدنٌ، مثل ميامي، ولوس أنجلوس، وبرلين، ولندن، ونيويورك، وملبورن، السياح بمشاهدها الفنية الصاخبة.

ما هو فن الشارع الأكثر فاعلية؟

يُجادل الكثيرون بأن فن الجرافيتي هو الفن الأكثر أهمية في عصرنا، فهو عالمي، وواسع الانتشار، وقد ازدادت شعبيته بشكل كبير في السنوات الأخيرة. ولكن، على الرغم من انتشار هذا الفن، وبكثرة، تبقى جداريات فن الشارع واسعة النطاق، مثل تلك التي الأعمال التي أبدع فيها أليك مونوبولي، وإدواردو كوبرا. وهذا النوع من الجداريات ينعش الأحياء، ويغيّر النظرة السائدة حول قيمة فن الشارع.

وما لا يمكن تجاهله أن فن الشارع، إضافة إلى تداعياته الاجتماعية والسياسية، يُضفي حيوية على الأحياء والشوارع. فقد ألهم هذا الفن سكان المناطق الحضرية الغنية الفنون الإبداعية بأسلوب مبهج.

وهو على عكس أشكال الفن الأخرى، لا يُمكن عادة نقله، أو بيعه، أو عرضه. فهو ينتمي أساساً إلى المكان الذي تشكّل فيه، أي إلى المدينة أو الحي، ولا يُمكن أن يصبح سلعة خاصة.

ويمكن أن نذكر في هذا الإطار أمثلة محدّدة، مثل منازل برج باريس 13 لذوي الدخل المحدود الذي يُعد خير مثال على فن الشارع التعاوني. فقد حوّل العديد من الفنانين العالميين ذلك المبنى المكوّن من عشرة طوابق، بالكامل، إلى تحفة فنية رائعة قبل هدمه عام 2013.

مجلة كل الأسرة

معالم سياحية وحيوية رائعة

نذكر من أشهر معالم فن الشارع حول العالم، جداريات «كامبونغ جلام»، في سنغافورة التي تحتفي بالتراث الثقافي للمنطقة، ومبادرة «دبي وولز»، في سيتي ووك بدبي، التي تضم أعمال فنانين عالميين على جدران مباني المدينة، إضافة إلى فن الشارع في ريكيافيك الأسلاندية التي تُعرف بجدارياتها الطبيعية، وفن جداريات النفق السفلي في «هليوارغونجين»، في ريكيافيك، ومعرض «شعر الجدران» الفني في ريكيافيك كذلك، وأعمال جون نويكس في دنيدن، بنيوزيلندا، ومحطات مترو أنفاق ستوكهولم التي تُعد أطول معرض فني في العالم، وحديقة جرافيتي ستوكهولم، وجداريات كيني راندوم، في بادوفا بإيطاليا، ومنطقة السركال أفينيو في دبي التي تُعد مركزاً فنياً عالمياً.

مجلة كل الأسرة

فن حقيقي

بمرور الزمن، زادت شعبية فن الشارع، وانتشر على نطاق واسع، مُظهراً أنه عمل فني أصيل. وقد تزداد قيمته في المدن التي تكون فيها الحركة سريعة، وهو فن يستحق البحث عنه، وتصويره، لتقديره، والترويج له.

ربما يكون هذا الفن أحد أفضل الأمثلة على قدرة الإنسان على تحويل مبنى بسيط إلى لوحات جميلة، تعكس حضارة المدن، ويتشاركها العالم كصورة مبهجة لرقيّ التفكيرّ وتطوّره.