
تنتصب قناطر إسنا في مواجهة جريان نهر النيل، في عظمة تليق بتاريخها العتيق الذي يمتد لأكثر من مئة عام، وهو التاريخ الفعلي للهويس المصري الضخم، الذي يشبه في حركة عمله قناة بنما، منذ بدأ يمارس عمله اليومي الذي يستهدف التحكم في مياه النهر، وحركة عبور المراكب التجارية، مع مطلع القرن الماضي.


ويصنف الخبراء قناطر إسنا ضمن أجمل وأقدم القناطر الملاحية على مستوى العالم، بسبب تصميمها الهندسي الفريد، وهويسها الملاحي الذي يزيد طوله على ثمانين متراً، ويضطلع بمهمة تنظيم عبور البواخر القادمة من أقصى صعيد مصر، باتجاه الموانئ التجارية التي كانت تزخر بها العاصمة في الزمان القريب، ما يجعله أحد أقدم الأنظمة الملاحية النهرية التي عرفتها مصر في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. ولا تتميّز قناطر إسنا ببنائها الفريد فقط، وإنما بعمارة هويسها الملاحي الذي يمكنها من تحمّل فرق منسوب مياه يزيد على خمسة أمتار، فتسمح بمرور مختلف المراكب السياحية والتجارية القادمة من أقصى جنوب مصر، باتجاه الشمال.


يرجع تاريخ بناء قناطر إسنا القديمة إلى المدة ما بين عام 1904 إلى عام 1908، وقد استغرقت عملية البناء، التي تمت في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، مدة أربع سنوات، شملت معمار القناطر التي تتكون من 120 فتحة، بعرض 5 أمتار لكل فتحة، فيما تفصل بين الفتحات جدران غلق بعرض مترين، تم صميمها لتحمّل فرق منسوب المياه المتدفقة من جريان النهر باتجاه الجدران، الذي يصل إلى نحو 5.1 متر.


ويُعد الهويس الملاحي في قناطر إسنا، القلب النابض لتلك القناطر العتيقة، إذ يبلغ طوله نحو 80 متراً، فيما يصل عرضه إلى 16 متراً، ويضم صينية دوارة ضخمة مصنوعة من الفولاذ، بهدف تنظيم عبور السفن، وهو واحد من الأسباب الرئيسية لإنشاء تلك القناطر، إلى جانب الدور الكبير الذي لعبته على مدار عقود في استصلاح آلاف الأفدنة في صعيد مصر، بما توفره من مياه الري لمختلف الأراضي الزراعية المترامية على ضفتي النهر، والتي تنتج أجود المحاصيل، مثل القطن، والقمح، والموالح.

ومنذ سنوات بعيدة، وقناطر إسنا تحظى بأهمية سياحية كبرى، بما توفره من عبور آمن لعشرات المراكب السياحية القادمة من أسوان، في طريقها إلى القاهرة، حيث تعبر تلك المراكب القناطر بطريقة فنية، تشبه إلى حد كبير عبور السفن العملاقة في قناة بنما الشهيرة، لكن الأمر لا يخلو أيضاً من متعة، إذ تعبر تلك البواخر النيلية القناطر في لحظات مثيرة، تبدو خلالها كأنها تصعد سلماً مائياً، وسط مناظر طبيعية خلّابة، وفي عملية دقيقة تعكس حجم الصمود الهندسي لتلك القناطر التي يزيد عمرها على مئة عام، إذ شيّدت من الحجر والبازلت الأسود، ما جعلها تصمد أمام عنفوان النهر، وتعمل بكفاءة كبيرة، على الرغم من مرور أكثر من قرن على بنائها، بفضل ما تخضع له من صيانة دورية تشمل بواباتها العتيقة، وعيونها التي تعترض مجري النهر، إلى جانب قضبان القطار الذي يتحكم في البوابات والعيون.

شيدت قناطر إسنا بعد الفيضان الكبير الذي ضرب مصر في عام 1906، وقد كانت في الأساس مجرّد فكرة تقدّم بها السير وليم جارستن، للخديوي عباس حلمي الثاني، بهدف التحكم في مياه الفيضان، قبل أن يتحمس لها الأخير، ويقرّر اعتماد نحو مليون جنيه وقتها لعملية البناء. وقد استخدمت الشركة الانجليزية التي بدأت تنفيذ المشروع بونش عملاقاً، أطلق عليه السكان المحليون في ذلك الوقت اسم «العفريت». وخضعت القناطر على مدار أكثر من أربعة عقود لعمليات تطوير متواصلة، شملت تعلية بواباتها لاستقبال الزيادات المطردة في منسوب مياه النيل.


وتعد قناطر إسنا واحدة من بين 12 قنطرة رئيسية تعترض مجرى النيل في مصر، من بينها 10 قناطر جديدة قامت مصر بإنشائها بدءاً من مطلع الثمانينيات، ومنها قناطر إسنا الجديدة، التي شيدت في عام 1994 خلف القناطر القديمة بنحو 1200 متر، بهدف توفير المياه اللازمة لسد الاحتياجات المتزايدة للري، وكذلك لإمكانية توليد طاقة كهربائية تقدر بنحو 635 جيجاوات ساعة، سنوياً، فضلاً عن تطوير الملاحة النهرية، عن طريق إنشاء هويس يسمح بمرور وحدتين ملاحيتين كبيرتين في وقت واحد، إلى جانب زيادة الحمولة على الطريق الذي يربط بين ضفتي نهر النيل إلى 70 طناً، بدلاً من 20 طناً. وتشمل القناطر الجديدة هويساً ملاحياً يقع في الناحية الغربية لمجرى نهر النيل، يتكون من حُجرتين، فيما يبلغ طوله نحو 160 متراً، ويصل عرض الحجرة الواحدة في الهويس الجديد إلى نحو 17 متراً، فيما لا يقل الغاطس الملاحي عن ثلاثة أمتار، وقد جهز الهويس الجديد ببوابتين مروحيتين، وبوابتين من النوع المنزلق، إلى جانب جسر علوي مفصلي. ويختلف الهويس في القناطر الجديدة عن الموجود في القناطر القديمة، إذ يتم التحكم في غلق وفتح بواباته، وكذلك بوابات القنوات الجانبية، بواسطة شبكة إلكترونية متقدمة، وقد كان بناء هذه القناطر ضرورياً لاستيعاب حركة النقل الملاحي، بسبب ارتفاع عدد الفنادق العائمة التي تعمل في المسافة بين الأقصر وأسوان، من 40 فندقاً، الى نحو 250 فندقاً، فضلاً عن ارتفاع عدد وحدات الملاحة التي تمرّ عبر هويس إسنا القديم يومياً، خصوصاً في فصل الشتاء إلى نحو 100 وحدة ملاحية.

تشبه قناطر إسنا، إلى حدّ كبير، قناطر أسيوط القديمة، التي تبعد عنها بنحو ثلاثمئة كيلو متر، حيث تتميز قناطر أسيوط بتصميمها البديع الذي قام عليه المهندس البريطاني الشهير السير ويليام ويل كوكس، الذي صمم في السابق سد أسوان. ولا تتميّز قناطر أسيوط عن قناطر إسنا في المعمار فقط، لكن في تاريخ البناء، إذ تسبقها بسنوات قليلة، حيث شيدت بين عامي 1898 و1903، على بعد يزيد على خمسمئة كيلو متر من مصب خزان أسوان.
* تصوير: أحمد شاكر
اقرأ أيضاً: مستمرة منذ أكثر من قرن.. رحلات النيل الفاخرة تستكشف روعة تاريخ وطبيعة مصر