09 يوليو 2025

«كفّ عن جلب التعاسة إليك».. الحزن رسالة تخبرنا عمَّا نعتبره مهماً

أستاذة وباحثة جامعية

مجلة كل الأسرة

مهما كانت نوايانا حسنة إزاء أنفسنا، إلا أننا محبوسون في داخل معتقدات خاطئة تجعلنا نتبع خيارات وقرارات ومواقف تجلب لنا التعاسة.

مجلة كل الأسرة

يستند الطبيب النفسي فرانسوا بوغونيون، في كتابه «كفّ عن جلب التعاسة إليك»، إلى عدد كبير من الدراسات ليشرح لنا الأخطاء التي نقترفها والتي تضلِّلنا، ومنها، على سبيل المثال، الاعتقاد بأن أفكارنا هي الواقع في حين أنها كثيراً ما تخدعنا، أو التحوُّل إلى رهائن بيد تاريخنا بدلاً من أن نستند إليه لننطلق.. وسواها من الأسباب.

الأفكار ليست هي الواقع

إليكم الحادثة التالية: أنا أنتظر صديقاً وقد تأخر على الموعد. هذا وضع عادي جداً وحيادي نسبياً، لكنه مع هذا يمكن أن يحمل معه عدداً من التفسيرات والانفعالات التي ترافقه. إذا ما قلت في نفسي: «لا بد أن شيئاً ما قد حصل له»، فسأشعر بالقلق، وإذا قلت: «إنه يتأخر على الدوام وهذه علامة عدم احترام»، فسأشعر بالغضب، وقد أقول: «لقد نسيني، أنا لست مهماً بالنسبة إليه»، حينها سأشعر بالحزن، أو أقول: «من الأرجح أنه عالق في أزمة سير»، فأشعر بفقدان الصبر... هذه كلها أفكار وكلمات وصور ليس أكثر، وما لم أتعرَّف إليها بكونها كذلك ستكون قادرة على جعلي أرد بطريقة لا تتناسب مع الواقع، فقد أبعث إليه رسالة نصية ملؤها الغضب، في حين أنه في الحقيقة قد تأخر في اجتماع عمل حول مشروع يود أن يشركني فيه.

والحقيقة أن أفكارنا مجرد كلمات أو صور، وكل المسألة تقضي بإعادتها إلى مكانتها الطبيعية من أجل استعمالها بمهارة واستعادة حرية الخيار بالنسبة إلى ما تقوله لنا.

مجلة كل الأسرة

الألم لا بد منه لكن العذاب اختياري

على الرغم من أن كلمتي «ألم» و«عذاب» مترادفتان تقريباً، فإنني سأستخدمهما هنا بمعنيين مختلفين: تدل الكلمة الأولى على الناحية الحقيقية والتي لا مفر منها من الألم، في حين أن الثانية تردنا إلى المكوِّن الذاتي في العذاب، وهي بالتالي اختيارية. حين نصطدم بشيء ونجرح أنفسنا يأتي رد فعلنا على مرحلتين: الأولى هي الشعور بالألم بما هو كذلك، أي إحساس مزعج وقاسٍ وإنذار، ثم في اللحظات التالية يتحرك الذهن مع أفكار على شاكلة «كان من الواجب أن أتنبه أكثر»، أو «أي غبيٍّ أنا!» أو «لا حظ لي حقاً!»، مع ما يرافقها من مشاعر ذنب وتمرد وحزن... إلخ، تأتي لتتجمع حول الألم في معطف سميك من العذاب.

ما نقوله ينطبق تماماً على الألم المزمن، فحين لا يفارقنا الألم على الرغم من العلاجات ينحو الذهن إلى الانقباض حول الألم والتركيز عليه ليدخل في صراع غير منتج ضده. وهنا نتحدث عن رمال العذاب المتحركة، فكلما تخبطنا غرقنا وسيطر علينا إحساس بأننا لا نتخبط بما فيه الكفاية؛ لذا، في حالة كهذه، يجب أن نتعلم كيف نتحد مع الألم من أجل أن نخرج من فخ الصراع. وتعمل المقاربة التأملية، كالتي أتّبعها في المستشفى مع مرضاي والتي ثبتت علمياً في التعاطي مع الألم المزمن، على إنشاء آليات تقبُّل الألم، ما يسمح بالتحرر من طبقة العذاب الاختيارية، ودمجه ضمن تجربة أوسع تسمح بالحصول على أثر إذابته.

الحزن لا يعني الانهيار العصبي

القاسم المشترك بين كل الوضعيات التي تولد لدينا شعوراً بالحزن هو الخسارة: وفاة عزيز، فقدان علاقة حب أو صداقة، خسارة شيء مهم بالنسبة إلينا، خسارة عمل أو موقع اجتماعي، خسارة مثل أعلى... حين يستولي الحزن علينا يثير في داخلنا إحساساً مزعجاً يجعلنا نبحث عن كيفية الهرب منه. بيد أن الحزن، كسائر المشاعر، يبعث إلينا رسالة مفيدة بالنسبة إلى توازننا الداخلي.

يغطي نطاق الحزن مجموعة منوعة من الكلمات تعبر عن شعور خفي بعدم الإنجاز وصولاً إلى ألم كبير نشعر به في حالة الحداد. ونذكر من تلك الكلمات: خيبة أمل، إحباط، انعدام الحماس، اليأس... ويعبر الحزن عن نفسه بتركيز الاهتمام على النقص وعدم الاهتمام بكل ما تبقى، ويترافق مع ظواهر بدنية أهمها الإحباط، وانخفاض في النشاط العضلي، وتباطؤ عام، وشعور بالفراغ أو بالوزن الداخلي، والرغبة في البكاء.

ويعتبر الحزن شعوراً أساسياً يقوم بوظائف جوهرية، أولها أنه يكشف لنا ما هو مهم بالنسبة إلينا، ويشكّل بالتالي عامل تعلُّم في الحياة، كما يؤدي إلى عودة إلى الذات بهدف إدراك النقص والقبول به حينما يكون بلا رجعة، أو التحضير لرد فعل مناسب. ويساعدنا الحزن كذلك في إيجاد دعم لدى الآخرين في تعاطفهم معنا كما يساعدنا في تنمية شعور التعاطف لدينا مع أحزان الآخرين. وبهذا المعنى فإن الحزن شعور عميق الفائدة.

أما الانهيار العصبي فهو مرض عقلي شائع، وهو، بحسب منظمة الصحة العالمي، واحد من أسباب العجز الرئيسية، ويساهم إلى حد واسع في أسباب الوفيات العالمية. بيد أنه مرض يحتمل علاجات فعالة، أولها الأدوية المضادة له والعلاجات النفسية كعلاج القبول والالتزام والعلاجات السلوكية والمعرفية؛ لذا من المهم أن نفهم أن الانهيار العصبي مرض حقيقي ويتطلب علاجات متخصصة، على عكس الحزن الذي هو شعور أساسي وغير مرضي.

مجلة كل الأسرة

الإحساس بالمشاعر ليس علامة ضعف

لا شجاعة بدون خوف؛ إذ لا شجاعة في القيام بشيء لا يخيفنا. وعلى المنوال ذاته، أن تكون قوياً لا يعني أن تكون عديم الإحساس. الأشخاص الذين نعجب بهم ويكونون مصدر وحي بالنسبة إلينا ليسوا أبطالاً خارقين، فأبطالنا متجذرون في الواقع الإنساني ويشعرون بالمتعة كما يشعرون بالألم، وهم غير كاملين وفانون، كما يملكون قيماً يخدمونها بأفضل ما يستطيعون. ألّا تكون معصوماً وأن تكون محدوداً وتحس بالمشاعر هي أمور طبيعية. تماماً مثل الألم، تلعب المشاعر المزعجة دوراً شديد الفائدة؛ لأنها تخبرنا بوقوع مشكلة. وحتى لا نعقّد المسائل نقول إن الخوف هو انفعال الخطر، والحزن انفعال الخسارة، والغضب انفعال الظلم. انفعالاتنا أساسية لأنها تخبرنا باحتياجاتنا الأساسية كالشعور بالأمان، والحاجة إلى العاطفة، واحترام الذات.

وتبدأ الصعوبات النفسية في الواقع ابتداءً من اللحظة التي نسعى فيها إلى الانقطاع عن مشاعرنا وتجنبها لأنها مزعجة، أو حين نسعى إلى السيطرة عليها وسحقها، أي اعتبار أنها مشكلة وليست رسولاً ينبئنا بوجود مشكلة.

الاستناد إلى تاريخنا أو الوقوع رهينة بين يديه؟

إن لكل واحد من البشر حصته من الأمراض والحوادث والخسارات والنزاعات... وليس من الممكن الهرب منها، ما يجعل أحياناً بعض الأشخاص يتسمرون في مكانهم هو رفضهم ما حدث مهم. وهذا من دون أن ننفي أن بعض الناس يمتلكون حظاً أكثر من سواهم، وهذا منذ بداية حياتهم.

حين يركز الذهن على ذكريات حوادث مؤلمة، ولا يرى سواها، لا يعود قادراً على المضي قدماً. فتُستخدم كل طاقة المرء في صراع داخلي غير منتج بالكامل، وهو يمتص طاقته في حلقات من الاجترار والأسئلة على شاكلة: «لماذا حصل معي هذا؟ كيف كان يجب أن أتصرف حتى أتجنبه؟ ما كان يجب أن يكون ردي في لحظتها؟» وهي جميعها أسئلة تقود إلى فراغ لكنها تغطي الألم الأول بطبقة من العذاب.

من غير المجدي أن نسعى إلى حل الماضي، والحقيقة الكبرى هي أننا لا نستطيع أن نؤثر إلا في اللحظة الحاضرة؛ لذا من الضروري أن نقبل تاريخنا، والقبول لا يعني أننا نوافق على الظلم أو الصدمة التي مررنا بها، لكننا نعتبر أنها تاريخنا وأننا لا نستطيع تغييره.

لا بد لهذه المرحلة أن تكون إذا ما أردنا أن نهتم بأنفسنا، وأن نبلغ نوعاً من إصلاح ما كان ومواصلة طريقنا في الحياة. في اللحظة التي نقبل فيها أحداث الماضي نستعيد حريتنا في المضي قدماً في الحاضر، وبالتالي توجيه المستقبل.

في فيلم «عودة ماري بوبنز» ثمة مشهد يضيع فيه الأطفال في ضباب لندن ويتيهون لفترة من الوقت، وحين تعثر ماري بوبنز عليهم تدلهم على الطريق وتقول لهم ببساطة: «كنتم تدورون حول أنفسكم في الضباب. كنتم أكثر اهتماماً بالنقطة التي أتيتم منها ولم تستطيعوا التفكير في المكان الذين تريدون الذهاب إليه».