07 يوليو 2025

«السوشيال ميديا».. عيادة رقمية محفوفة بالمخاطر والتضليل

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

في مشهد يختلط فيه الأبيض الناصع للمعاطف الطبية بألوان الفلاتر والمؤثرات، أصبحت الـ«سوشيال ميديا» في السنوات الأخيرة ساحة مزدحمة بالمقاطع المصورة الخاصة بالمجال الطبي على يد متخصصين وغير متخصصين، فما كان يوماً محصوراً في عيادات مغلقة وجلسات تشخيص هادئة بات اليوم معروضاً أمام الملايين تحت لافتات «قبل وبعد»، «خدمات تجميلية مضمونة»، «استشارات طبية مجانية»، في تسويقٍ رقميّ يبدو جذّاباً، لكنه ليس دوماً بريئاً.

مجلة كل الأسرة

ففي حين يرى بعض الأطباء والمؤثرين في مواقع التواصل وسيلة لتثقيف الناس صحياً، يحذّر مختصون آخرون من تسويق مضلّل يستغل مخاوف الناس وهوسهم بعلاج أمراضهم، ويجرّهم نحو قرارات طبية غير محسوبة وأحياناً خطرة بناءً على محتوى مُنمّق أكثر من كونه علمياً، والسؤال الذي يطرح نفسه، من هم المستفيدون؟ ومن يدفع الثمن الحقيقي؟

مجلة كل الأسرة

الدكتورة هيام هاشم عمر، استشارية طب الأسرة، تقول «الحديث عن التسويق الطبي عبر السوشيال ميديا موضوع بالغ الحساسية والتعقيد، خاصة في ظل تداخل الرسائل الطبية مع حملات الدعاية التي قد تفتقر أحياناً إلى المهنية والمصداقية. وقبل أن نبدأ بإصدار الأحكام أو إطلاق التوصيات لا بد أن نطرح على أنفسنا سؤالاً جوهرياً، لماذا يعرض بعض الأطباء حالات مرضاهم أو يتحدثون عن عملياتهم عبر الإنترنت؟ الإجابة ترتبط بمحورين أساسيين، الأول وهو أمانة الطبيب وكفاءته المهنية، والثاني وهو وضوح رسالته الصحية وتوجهه التوعوي، فإذا كان ممن يشهد لهم بالمهنية والضمير فهنا يصبح نشر نصائحه إلى متابعيه واجباً، لا ترفاً، بشرط أن يخدم هذا المحتوى الصحة العامة ويرشد المتابعين إلى مصادر موثوقة».

وبما أن منصات التواصل أصبحت أقرب إلى المتلقي من أي وقت مضى، وبالتالي فإن دخول الطبيب المتخصص إليها بهدف رفع مستوى الوعي الصحي وتثقيف الجمهور يُعد جهداً محموداً، فإن هذا الحضور الرقمي ينبغي أن يُدار بحذر ومهنية عالية، لأن الساحة مزدحمة بما يكفي من المعلومات المضللة، والإعلانات المبالغ فيها، وأشباه الأطباء الذين يتصدرون المشهد لجذب المرضى لأغراض تجارية فقط.

ومن خلال تجربتي الشخصية في العيادة، فأكثر الشكاوى شيوعاً بين المرضى تدور حول:

  • استخدام مواد كالأعشاب أو الكريمات الموضعية من مصادر غير موثوقة، ما تتسبب في حساسية جلدية أو آثار عكسية.
  • اللجوء إلى عمليات تجميلية نتيجة تصديق الإعلانات المضللة، لتكون النتيجة أقل بكثير من التوقعات التي رُسمت بفعل التسويق المبالغ فيه.
  • تناول مكملات غذائية أو فيتامينات دون استشارة طبية، ما يؤدي إلى تفاقم بعض الحالات الصحية بدلاً من تحسّنها.

 المعلومة الطبية ليست سلعة تباع للجميع وما ينفعني قد يضر غيري

ثمة مشكلة كبيرة يواجهها بعض الأطباء في عياداتهم جراء الاندفاع وراء المحتوى الطبي عبر الـ«سوشيال ميديا»، توضحها الدكتورة هيام عمر «هناك إشكالية كبيرة نواجهها كأطباء، وهي أن بعض المراجعين يأتون إلى العيادة وهم يحملون معلومات خاطئة أو غير مكتملة عن حالتهم، اكتسبوها من الإنترنت، أو المروجين لها عبر السوشيال ميديا، وهو ما يؤدي إلى تصادم بين ما يعتقدونه صحيحاً تماماً، وبين الممارسة الطبية السليمة التي تُبنى على تشخيص دقيق واستيعاب شامل لحالة المريض. وللأسف هذه الممارسات لا تُضعف ثقة المريض بالمختص فحسب، بل قد تضر بسمعة الطبيب الصادق الذي يعمل وفق ضوابط علمية، فالصحة ليست وصفة واحدة للجميع، وما ينفع مريضاً قد يضر آخر، لذلك يبقى التواصل المباشر مع الطبيب المختص هو القناة الآمنة لتلقي النصيحة الطبية السليمة».

مجلة كل الأسرة

نصائح مهمة بشأن التطبيب عبر الـ«سوشيال ميديا»

تقدم الدكتورة هيام عمر، هذه النصائح المهمة:

  • على المتابعين ألا يثقوا بأي منتج طبي أو عشبي أو مكمل غذائي بناءً على إعلان أو ترشيح رقمي دون استشارة طبيب موثوق.
  • كما يجب عليهم تجنب إجراء العمليات التجميلية، أو أخذ الحقن أو الأدوية دون فحوص وتشخيص طبي حقيقي.
  • وعلى الأطباء أن يكونوا صوتاً للوعي لكن بحذر، فلا تنشروا المعلومة الطبية إلا ضمن حدود تخصصكم وضمن إطار مهني يراعي سلامة المتلقي، ولا تفرطوا في عرض إنجازاتكم كي لا تتآكل قيمة العيادة والممارسة المباشرة، والتي تظل صمام الأمان الوحيد لصحة المريض.
  • أما عن المؤثرين الذين يستغلون صفحاتهم وكثرة متابعيهم في الترويج للمنتجات، فرسالتي لهم أن يراعوا الأمانة فيما يقدمونه، وأن يبتعدوا عن الأمور الطبية ويتركوا علمها لأصحابها الذين درسوا وتعبوا ويفنون أعمارهم لخدمة البشرية.
مجلة كل الأسرة

ضغوط التسويق الطبي

من جانبه، يؤكد أحمد عبدالله الغصيب النقبي، مستشار ومحاضر نفسي في جودة الحياة، ومدير مركز الابتكار للاستشارات والدراسات الإدارية، «التسويق الطبي والتجميلي بات يمارس ضغطاً نفسياً هائلاً على المتابعين، خاصة في ظل التطور التقني السريع وغياب المعايير الأخلاقية في كثير من المحتوى. هذا الضغط يضعف ما يعرف بـ«الثبات الانفعالي»، ويُفقد الفرد القدرة على اتخاذ قرارات صحية سليمة، لا سيما عند توظيف الخوف من التقدم في العمر، أو البدانة، أو الأمراض، كأدوات تسويقية».

هناك من يستطيع الصمود رغم الانتشار الكاسح لصور النحافة والتعافي السريع من الأمراض

«اللعب على الجانب العاطفي يجعل الناس تهرع إلى تلك الدعايات دون التأكد من مصداقيتها طبياً وقانونياً، إذ تسهم هذه الحملات في نشر «القلق الصحي» أو ما يعرف بـ«وسواس المرض»، حيث تتضخم مشاعر الخوف مع غياب دور رقابي فعال على هذا النوع من المحتوى، إلا أن هناك من يستطيع الصمود رغم الانتشار الكاسح لصور النحافة والتعافي السريع من الأمراض، وهم من لديهم وعي بمفهوم تقدير الذات. وكما يرى بعض خبراء النفس فإن الشخص الذي بُنيت ثقته بنفسه على احترام الذات، والتربية المتوازنة، والانتماء لقيم اجتماعية أصيلة لا يتأثر بمثل هذه المؤثرات السطحية، غير أن الأمر يختلف كثيراً لدى الفئات الأصغر سناً خاصة لدى المراهقين والشباب، وهي الشريحة الأكثر هشاشة نفسياً، أو من يعانون اضطرابات في صورة الجسد، إذ تشير الملاحظات إلى أن الصور والمحتوى التجميلي على منصات التواصل تخلق مقارنات اجتماعية غير واقعية، وتزداد هذه التأثيرات في البيئات الأسرية غير المتماسكة، التي تفتقر إلى المتابعة والتوجيه، مقارنة بالمجتمعات التي تحافظ على التربية القيمية والتواصل الأسري المستمر».

مجلة كل الأسرة

يقودنا الحديث إلى تسليط الضوء على تداعيات توجيه الطبيب أو المؤثر الطبي محتواه بناءً على ما ينجح جماهيرياً بدلاً من الالتزام بالمهنية، ويشير أحمد النقبي «يؤدي هذا الأمر إلى ظهور الجشع الطبي المالي، وانتشار كثير من الأطباء الاقتصاديين بعيداً عن المهنية والقسم الذي أدوه قبل مزاولة المهنة، ناهيك عن زيادة المؤثرين الذين يروجون للأمور الطبية وصولاً للشهرة الرقمية، فكل ذلك يعمل على خلخلة المجتمع، خاصة لدى أصحاب الثقافات المحدودة، ما يسبب مشكلات صحية ومجتمعية كبيرة، أما من لديهم وعي وإدراك فمن الصعب التلاعب بعقلياتهم في ظل الثقافة الصحية والحملات التوعوية والمبادرات التحفيزية، وهو ما يفطن إليه عدد من أصحاب الدعاية ويدركون جيداً مثل تلك الأمور للحفاظ على متابعيهم، وأهمية غرس الثقة بدلاً من زعزعتها، والتي تجر إلى خسائر مادية بسبب السمعة».

كيف تختار محتوى طبياً آمناً؟

يقدم المحاضر النفسي، أحمد النقبي، بعض النصائح للمتابعة الآمنة للمحتوى الطبي عبر الـ«سوشيال ميديا»:

  • الرقابة الأسرية على الأبناء أمر غاية في الأهمية، من خلال متابعة المنصات الرقمية التي يستخدمونها، وتوعيتهم بخطورة الدعايات المضللة، إضافة إلى التثقيف المستمر وغرس القيم الإيجابية، ومساعدتهم في انتقاء المحتوى المناسب لأعمارهم ومعتقداتهم.
  • استشارة أصحاب الاختصاص في الجانب الصحي، فهم من يحملون العلم والمسؤولون عن نقله إلى مرضاهم.
  • الرقابة ووضع ضوابط وقوانين وتراخيص معتمدة من أصحاب الاختصاص على كل من يقدم إعلانات لمحتوى طبي، وفرض عقوبات على المخالفين والمتلاعبين بعقول أفراد المجتمع ونفسياتهم مطلب أساسي وضروري.
  • تكثيف عمليات التثقيف الصحية، وعمل مبادرات تحفيزية لخلق بيئة صحية وجودة حياة إيجابية مستدامة للمجتمع.
مجلة كل الأسرة

معايير الترويج للمنتجات 

سناء حجك، صانعة محتوى، تأخذ على عاتقها تحمّل مسؤولية ما تقدمه لمتابعيها، وتحرص على تقديم محتوى هادف وغير مضلل، وتقول «أنا ضد الترويج غير الأخلاقي للمنتجات، خاصة تلك المرتبطة بالجانب الطبي أو التجميلي، لأن تداعيتها على الصحة قد لا تحمد عقباها، ناهيك عن التأثير السلبي على المدى الطويل، فهو أكبر بكثير، بدءاً من فقدان ثقة الجمهور بمقدم المحتوى وصولاً إلى صعوبة بناء علاقات حقيقية مع الشركات الموثوقة. وأنا عن نفسي لا أهتم بشعبية المنتج بقدر اهتمامي بنتائج استخدامه، وأهم المعايير بالنسبة لي هي أن أكون قد جربت المنتج شخصياً وتأكدت من جودته، كما أعتبر وجود أبحاث كافية تثبت أنه آمن ولا يسبب مشكلات أو أمراضاً للبشرة أمراً أساسياً بالنسبة لي، فكسب ثقة المتابعين وتقديم معلومات موثوقة عن المنتجات المعلن عنها يسبقه خطوات مهمة، منها تأكُّدي من وجود اعتمادات من الجهات الصحية المختصة، وتجربة المنتج على نفسي قبل الترويج له، كما أتابع أي تحذيرات أو تقارير عن مضاعفات محتملة».

وتضيف «من واقع تجربتي الشخصية خلال أكثر من 10 سنوات في هذا المجال، بنيت منصتي على محتوى توعوي حقيقي وصادق، حتى تكونت لدى المتابعين ثقة تامة بأي منتج أروّج له، دون الحاجة حتى للتساؤل عن مصداقيتي، وهذه الثقة تنتقل تلقائياً إلى المتابعين الجدد أيضاً. وأتذكر عندما روجت لعيادة طبية أجريت فيها جراحة لقص اللثة، لم أقدم أي تفاصيل إلا بعدما انتهيت من العملية وكانت النتيجة مرضية بالنسبة لي، وهنا شاركت من يتابعونني كل خطوة قمت بها، ولولا النتائج الإيجابية لما فعلت ذلك».

مجلة كل الأسرة

وعن موقفها ممن يتهم بعض المؤثرين بالمبالغة أو التجميل في وصف النتائج، تشير سناء حجك «لا ألوم المتابعين إن شعروا بالاستياء تجاه ردود الفعل المبالغ فيها، لكن هذا لا يعني أن جميع المؤثرين غير صادقين، فبعضهم يستخدمون المنتجات فعلاً ويجربونها على أنفسهم، وهذا يجعل ردود فعلهم طبيعية حتى لو بدت مبالغاً فيها بعض الشيء، وأرى أن إدراج تحذيرات أو إخلاء مسؤولية ضمن المنشورات الطبية أو التجميلية أمر يحمينا جميعاً من استخدام المنتجات بشكل خاطئ».