دعتني صديقتي اللبنانية إلى «عزبتها» في باريس. تصوّرتها تمزح، لأن العزبة هي ما نراه في الأفلام المصرية القديمة، وهي من أملاك الباشوات، وأشباههم. ثم فهمت أن عزبة صديقتي هي قطعة أرض مساحتها 100 متر مربع، تتوسط قطعاً مربعة مماثلة في حقل واسع يعود إلى بلدية المنطقة. والبلدية تؤجرها بمبلغ شهري زهيد للأهالي.
قامت صديقتي بتسوية التربة، وزرعت فيها شجيرات للورد، وكرمة، وزيتونة، ونباتاً متسلقاً. طلبت مني أن نقضي نهار عيد العمال في تلك المساحة، لكي أساعدها على غرس شتلات مختلفة تتفتح في موسمها. قالت: هل جرّبت أن تشتغلي في الفلاحة ليوم واحد؟
بما أن الشقق السكنية تخلو من الحدائق، فإن الكثير من سكان المدن الأوروبية المزدحمة محرومون من مساحة خضراء يتنفسون فيها عند الاستيقاظ، أو يشربون فيها شاي العصر، قبل الغروب. صحيح أن هناك حدائق عامة بين المباني وأبراج الأسمنت، لكن تلك المساحات العامة لا تمتلك خصوصية التصرف فيها وفق رغبتك.
في الحديقة العامة، أي البارك، هناك أشجار معمرة مغروسة مسبقاً، منذ عقود، وأحواض أزهار يعتني بها بستانيون متخصّصون، ومدرّبون، يعرفون موسم كل نوع، ومواعيد الشتل، والتقليم، وتقليب التربة. ليس في مقدور زائر البارك أن يخصص مساحة لزرع الفجل، أو النعناع. تلك متعة لا تتوفر سوى لمن يسكن في منزل محاط بمساحة قابلة للزرع.
في البيوت الريفية الفرنسية، تتباهى الأمهات ببقعة في زاوية الحديقة تسمى «بوتاجيه». والـ «بوتاج» هو الحساء، أو الشوربة. والشوربة طبق مفضل على الموائد العائلية، تبدأ به الوجبات، لاسيما في الشتاء، وعادة ما يتم تحضيرها من مختلف أنواع الخضار المتوفرة في البيت. وقد حاولت إنشاء «بوتاجيه» في بلكونة شقتي. ونجحت في زراعة الطماطم، والفلفل الحلو، والنعناع، لكن البقدونس والكزبرة والكراث استعصت عليّ. تنمو بذور الطماطم، وتطرح كريات صغيرة من النوع الكرزي، لكن الكزبرة تجفّ وتموت بعد أيام من شتلها، على الرغم من أنني أشتريها مزروعة جاهزة في وعاء خزفي صغير.
مع هذا، فإن فرحتي لا توصف حين أحضّر لضيوفي طبق السلطة، وأقول لهم إن الطماطم هي من إبداع أناملي. هل من الضروري أن يقتصر الإبداع على الكتابة الأدبية، ونظم الشعر، وتلحين الأغاني، ورسم اللوحات؟
المهم أن الأول من أيار/ مايو، كان نهاراً مشهوداً لا يُنسى. شمّرت صاحبة الحديقة أردانها، وحفرت التربة بالأصابع، وغرست فيها بصلات النرجس، الزهرة الفوّاحة المفضّلة. وكنت أتمنى لو أنني زرعت نخلة عراقية، أو زهور دوار الشمس، على الأقل. لكنني أعرف أن التجربة ستتكرّر، وسأعود إلى عزبة صديقتي هدى إبراهيم، في نهارات الصيف، وأمسياته الطويلة، لكي أغسل عينيّ بالخضرة، وأتمتع بما نما واكتمل، ونشر شذاه في أرجاء تلك البقعة الصغيرة الساحرة. إنه جهد متعب على الرغم من أنها عزبة بحجم منديل، وقد كذب علينا محمد عبد الوهاب حين غنّى: محلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح.
الفلاح يشقى لكن نتيجة عمله تسعد البشرية، وتملأ بطونها.