من الأفكار الشائعة أنه يتعيّن علينا، حتى نكون سعداء، أن نحمل مشاعر إيجابية على الدوام. لكن من منّا يمكنه أن يتفاخر بعدم إحساسه بمشاعر سلبية؟ بالطبع، المشاعر الإيجابية واللطف يمكنها أن تقودنا بعيداً، لكن ليس بالقدر الذي تظنون.
يبين كتاب «كونوا سلبيّين»، من تأليف تود كشدان ود. روبرت بسواز-دينر، أننا بحاجة إلى كل مظاهر شخصيتنا، من الغضب الذي يغذي الإبداع، إلى الأنانية التي تعطينا الشجاعة، وأننا لسنا مضطرين إلى الاختيار بين السلبي والإيجابي من مشاعرنا.
الغضب في مكانه وتوقيته.. مناسب أحياناً
في الحقبة التي كان فيها «بات رايلي» مدرّباً لفريق «لايكرز» لكرة السلة في لوس أنجلوس، وخلال الشوط الأول من إحدى المباريات، كان اللاعبون أكثر اهتماماً بصراخ المشجعين، وبتبادل المزاح من اهتمامهم بما يجري على الملعب. أما كريم عبد الجبار، وقد كان اللاعب النجم آنذاك في الفريق، فكان الوحيد المهتم باللعب. وبعد انتهاء الشوط الأول، انفجر المدرّب رايلي غاضباً، ورمى أكواب الماء الورقية في وجه كريم ظلماً. فشعر رفاقه بالذنب، وتمالكوا أنفسهم، إلى درجة أنهم عوَّضوا النقاط الثلاث والعشرين التي كانوا خسروها، وفازوا في المباراة. وتبيّن بعدها أن سلوك رايلي كان مقصوداً، وأن تكتيكه آتى ثماره.
هل كان الفريق سيلعب بشكل أفضل في الشوط الثاني لو أن رايلي تصرّف بلطف ومحبة؟ لقد كان غضبه مناسباً تماماً للوضع آنذاك. وفي تلك الحالة، تبيّن أن الشعور السلبي هو الذي لعب دور المحفِّز. فالسعي بأي ثمن إلى اعتماد موقف إيجابي، وكبت، أو تجنّب المشاعر السلبية قد يعني حرماننا من الأدوات النفسية الأكثر فائدة، والخسارة في لعبة الحياة. لا يمكننا أن نتخلص من المشاعر السلبية من دون أن نضرَّ، من حيث لا ندري، بسعادتنا، وبمعنى وجودنا، وتصميمنا، وفضولنا، ونضجنا، وحكمتنا، ونموّنا الشخصي. حين نخدّر المشاعر السلبية، نخدّر في الوقت ذاته المشاعر الإيجابية.
لماذا يمكن للمشاعر السلبية أن تكون أكثر فائدة من الإيجابية؟
نشر روي بوميستر، وزملاؤه من جامعة فلوريدا، مقالاً علمياً بعنوان «السيئ أقوى من الجيد». يعالج هذا المقال ردة فعلنا إزاء الحوادث السلبية، وهي عادة ما تكون أقوى من ردة فعلنا إزاء الحوادث الإيجابية. وقد جمع الفريق إثباتات شاملة ومقنعة تدل على أن الحوادث، والتجارب، والعلاقات، والحالات النفسية السلبية، تؤثر في حياتنا الشعورية أكثر مما تفعل الإيجابية منها. قد تدهشنا هذه النتيجة المتشائمة ظاهرياً، لكن يجب أن نتذكر أن السلبية هي أحد مكتسبات تطوّرنا. فالتقييمات السلبية أساسية في مجال صراع البقاء (العشبة المرّة قد تكون مضرّة)، وهذا صحيح في مجال المشاعر السلبية، لأنها بمثابة جهاز إنذار ينبهنا بإمكانية خطورة وضع معين.
وبهذا المعنى، تمكننا المشاعر السلبية من تركيز انتباهنا على الوضع في اللحظة الراهنة. فحين تهمّون بإجراء ثقب في الحائط، تسهرون عموماً على إحداث الثقب في المكان المناسب، وعلى وضع يدكم في الوضعية المناسبة التي تحميها من الخطر. كما تبين الأبحاث التي أجريت في جامعة كوين، أن الأشخاص ذوي المزاج الاكتئابي يميلون إلى التنبّه للتفاصيل، خصوصاً لتعابير الوجه، في حين أن الآخرين يلاحظون السمات العامة. لهذا السبب، حين تكون في حالة نزاع مع شريك حياتك، تلاحظ أدنى تغيير في موقفه، وهو ما لن تلاحظه أبداً حين تكون في مزاج جيد.
حسناً، إذا كان الناس السعداء يهملون التفاصيل، وإذا كان هذا الأمر يؤدي بنا إلى علاقات اجتماعية مريحة أكثر، ألا ينبغي أن نرضى بهذه الحالة؟ كلّا. فهل تفضل أن يكون لديك محامٍ مريح ولطيف، أو مدافع عنك أقلّ لطفاً لكنه قادر على التقاط أي بند لغير مصلحتك في العقود التي تبرمها؟
إذا كانت المشاعر السلبية مفيدة لهذه الدرجة.. فلماذا يتجنبها الناس؟
يتجنب الناس المشاعر السلبية لأسباب أربعة رئيسة:
قد تجدون أنه لمن المدهش ألّا نردّ على الأسباب الأربعة الأساسية التي تجعلنا نتجنّب المشاعر السلبية، والسبب هو أننا لا نستطيع، فكل هذه الأسباب صحيحة وحقيقية على الأقل، جزئياً. والسؤال الأساسي هو معرفة أي وظيفة تقوم بها المشاعر السلبية، إذ يبدو أنها تشكل جزءاً مهماً من البناء الانفعالي السليم، على الرغم من أنها قد تكون مضطربة ومزعجة أحياناً، لكنها مفيدة جداً كذلك.
فالإحساس بالانزعاج أو بالراحة ينبئنا بدرجة تقدّمنا، وبنوعية علاقاتنا وبيئتنا، وبأفعالنا. باختصار، هو أشبه بـ«جي.بي.إس»: يعطينا معلومات عن وضعيتنا، عن الأرض أمامنا وخلفنا، وعن سرعة تقدمنا. ومن يسعون جهدهم لتجنب، أو تخبئة المشاعر السلبية، أو الهرب منها يحرمون أنفسهم من كل هذه المعلومات الثمينة.. ولمزيد من الوضوح:
يحمل كل إحساس سلبي ينتابكم إنذاراً بأن شيئاً ما لا يسير على ما يرام، ويتطلب انتباهكم. حين تحاولون فوراً أن تهدِّئوا الغضب، أو أي شعور مزعج آخر، تتجنبون فهم سبب ظهوره وما هو الشيء المرتبط به. قد تقولون إن الأسباب التي تدفعكم إلى تجنّب المشاعر السلبية، عدة، نحن هنا لا نعطيكم إلا سبباً واحداً لقبولها. ربما كان هذا صحيحاً، لكن حتى لو لم يكن هناك سوى هذا السبب، فهو سبب جوهري. تخيّلوا أنكم تعيشون في عالم حيث لا أحد سيشعر بالخيبة لأنه لم يتمكن من بلوغ هدف عمِل لأجله بشغف، عالم لا يشعر أحد فيه بالخوف في حال اندلاع حريق، ولا بالنفور عند رؤية مشهد مقزز... من دون كل هذه المشاعر التي يُقال عنها إنها سلبية، سنعيش في عالم البشر فيه مجتزأون.
إقرأ أيضاً: كيف تصبح شخصاً إيجابياً؟ وما أهم مصادر الطاقة الإيجابية؟
ما رأيك.. هل تنفع المشاعر السلبية فعلاً: