03 ديسمبر 2025

«الأم في أعماقها الحميمة»... مشاعر مزدوجة عند الأمهات محكوم عليها بالصمت

فريق كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

سواء شعرت المرأة بأن الحمل يجلب لها السعادة، أو يُشعرها بالخوف، وسواء أكانت محرومة من الأطفال أم رفضت مجيء الطفل، أو شعرت بالفرح أم بالذنب، فإن لدى الأمهات الحق في الكلام. لكن نادراً ما تستعمل الأمهات هذا الحق، كما لو أن الصمت مقدَّر عليهنّ، والكلام يضاعف شعورهنّ بالذنب.

مجلة كل الأسرة

بين أيدينا هذا الكتاب «الأم في أعماقها الحميمة»، من تأليف صوفي مارينوبولوس، الذي يشير إلى أن في كل مرة تصير المرأة أُمّاً، يكون هذا للمرة الأولى على الدوام، وما تراه المرأة التي تعيش هذه التجربة أمامها سيظل على الدوام أرضاً مجهولة، مهما كانت محاطة بمهارة وبمعرفة علمية. لا شيء يمكن أن يجعلنا نتنبأ بما سيؤول إليه انتظار طفل جديد، ولا شيء يمكن أن يقال بطريقة ثابتة لا شك فيها. فمعاناة الوحدة، والقلق، والشك، والألم، والخوف من/ وعلى الطفل الآتي، أو الذي أتى، هي مشاعر قائمة، يصعب التعبير عنها، أو التعرّف إليها، وهي كامنة، بعمق، في عالم غامض ومعيش يضرب جذوره في تاريخ البشرية، وقد كان ذاكرة حسِّية قبل أن يكون فكرة عقلانية.

مجلة كل الأسرة

الأم: من سأكون؟

هذه المشاعر هي بمثابة أرض مجهولة، وغير مستكشفة، هي أرض الظلال، وتظهر أحياناً من دون إنذار، فتفاجئ المرأة التي تعيشها. إن احتمال هذا اللا مُتوقّع، ومواجهة جزء من الذات لم نكن نعلم أنه موجود، لهو تجربة عصية على التفكير، وهي مصدر اضطراب كبير إلى درجة تصير بها تجربة معيبة، وسرية، ولا يمكن البوح بها. لا يستطيع التقدم العلمي أن يفعل شيئاً إزاء الغزو الذي تتعرض له النفس، وحدها صاحبة هذه المشاعر تستطيع أن تعالج نفسها لتواجه هذا المجهول الذي يحاصرها.

أن تصير المرأة أُمّاً يعني أن تنتقل إلى الجانب الآخر من المرآة، لتصبح بدورها صورة من حملت طفلاً في جسدها و/أو في رأسها. وتدور التساؤلات في رأسها من دون أن تتلفظ بها أبداً: هل سأكون مثل المرأة التي سبقتني؟ هل سأكون مختلفة عنها؟ تساؤلات تطال الهوية لتنتهي بسؤال غامض هو «من سأكون؟». وتبدأ الحوارات مع المرأة، أو تنتهي بإشارة إلى أمها، أو إلى ابنتها، كما لو أن هاتين الحالتين تقبعان في قلبها. ويبقى السؤال قائماً في ما وراء الأجوبة المعطاة.

التغير الجسدي لدى المرأة الحامل هو تغيُّر ظرفي، ويكون مرئياً لبضعة أشهر ويختفي بعدها، فيعود الجسم إلى ما كان عليه مع تغيير بسيط أحياناً. فانتفاخ البطن ليس سوى الجزء المرئي من جبل الجليد. أما الحالة الذهنية لدى المرأة التي تصير أمّاً فهي تخضع إلى تغيير مستدام، لا رجعة عنه، وشبه خفي. وعند هذا الجزء الخفي، بالتحديد، تتوقف الكلمات.

ليست المشاعر، والانفعالات، والمخاوف، والأفكار التي ترافق هذه الأشهر القليلة من التحولات البدنية مشابهة دوماً لصورة هذه الاستدارات اللطيفة. فالحياة النفسية التي لا يُعبَّر عنها أحياناً، والتي لا تُسمع في أحيان أخرى، ترافق تلك الأشهر التسعة، وأكثر، وتكون نوعاً من الانتقال السرّي تعيش فيه المرأة حياة مزدوجة، قد يكون عنفها أحياناً لا يطاق، وأشكاله متعدّدة، وقد يقود في أحيان أخرى، إلى انفجارات غير متوقعة.

مجلة كل الأسرة

تجاهل الحالة النفسية للأم

إن زمن المعاناة، والشك، والألم الذي يترافق مع الفرح، والذهول، والشعور بالامتلاء، ليس هو ذاته زمن التقنية. ولئن كان هذا الأخير سريعاً وفعّالاً، ومحط إعجابنا، فإن الأول مدته طويلة، ويحتاج إلى الصبر. ومع مرور السنين وتقدم التقنية أكثر فأكثر، يزداد التباعد بين العناية الطبية ذات النوعية الممتازة، وبين عدم الأخذ في الاعتبار الحالة النفسية للأمهات. وقد بيّنت الدراسات أنه مطلوب من المرأة الحامل أن تثبت أنها أمٌّ جيدة، أي أن تعطي خلال حملها كل مؤشرات السعادة المرتبطة بتوقُّع الطفل، من دون أن تظهر، بالطبع، أيّ ازدواجية في مشاعرها.

ويجب ألا ننسى الآباء عند التفكير في هذه الأسئلة. إن الرغبة في إنجاب طفل موجودة منذ الطفولة لدى البنات والأولاد، لكن تحقيقها في سِن الرشد يقود الرجال والنساء، أحياناً، نحو طرق فرعية. وهكذا، فإن الرغبات في الإنجاب قد تتعرّض، على الرغم من أفضل تقنيات في العالم، للاستحالة، أو التأخير، أو الإلغاء. والانقلاب الذي تثيره الرغبة اللا واعية في الطفل المرتبطة بالرغبة الواعية قد تعرِّض المرء إلى المعاناة التي تسببها حكاية غير منتظرة، أو قد يتعرض الآباء والأمهات إلى جزء من ذواتهم لم يشكّوا يوما في وجوده.

تتحدث نتالي أزولاي في كتابها «الأم المضطربة» قائلة: «لقد اكتشفت في نفسي وجوهاً من العنف، وحالات من القلق لم أكن أعرفها. إنها التجربة الأكثر تسبُّباً بالتغيير التي قُيِّض لي أن أعيشها. فقد تراءت لي أنانيّتي، وحالتي الهستيرية، ومعهما غضبي. ما كان بوسعي أبداً أن أتخيّل أني لن أطيق طلبات أطفالي التي لا تتوقف، أو أني سأشعر بالملل برفقتهم. (...) أظن أن والدتي قد عاشت كل هذا، من دون أن تتمكن يوماً من أن تعبِّر عن مشاعرها».

هي أقوال غير معتادة، ويتعيّن على صاحبها أن يتمتع بالكثير من الشجاعة حتى يتجرأ على كتابتها، وإعطائها طابع الديمومة. هذا الشكل من الشهادة العامة نادر، وربما كان فريداً، لكنه صدى لكلمات أخرى تُسمع في أحاديث الأمهات، حينما تُسِرُّ والدتان الواحدة للأخرى بما يعتلج في صدريهما، وتجدان الشجاعة «على الكلام».

ويجب أن يكون المرء شديد الانتباه حتى يسمع حقاً ما تفكر فيه الأمهات. من المؤكد أنهنّ يتحدثن، ولكن بطريقة متحفظة، ومستفيدات من بضع لحظات ليعبِّرن عن ذلك التعب، والقلق، والضيق، والإنهاك، لكن الإصغاء إليهن نادر، مثلما هو نادر كلامهن.

مجلة كل الأسرة

سجينة الصمت

الأم تعاني ولا تفصح عن معاناتها، وما نكشفه عنها ليس اكتشافاً، فكل حقبة قد بَنت صمتها، وحبست جزءاً من الإنسانية في عالم بلا كلمات. صحيح أن النساء هنّ أكثر من مارس الصمت حول هذا المعيش العميق في دواخلهن، وحول هذه اللحظة، لحظة الولادة التي تعيشها المرأة وحدها، وبطريقة مشتركة في آن. فإذا كان الطفل هو طفل الزوجين اللذين ينتظرانه، وطفل المجتمع الذي يريده بهدف التكاثر والحفاظ على معدلات الولادة، فإن لحظة الولادة هذه، بما تحمله من انتقال عبر الجسد يرتسم في نفس كل امرأة مع ما يرافقه من تغيرات هائلة، مكتوب لها أن تبقى سجينة الصمت.

إن تَلَقِّي دموع جسد، وكلماته التي تحكي حكاية الرغبة في الطفل، وهي رغبة قد تكون ملغاة، أو محطمة، أو خائبة، وقد تكون أيضاً سعيدة ومنتظرة، يشكل جزءاً من سياسة الصحة العامة التي ينبغي أن تكون. لا يجب خنق هذه الكلمات، بل مشاركتها حتى يتمكن مَن يقولها من أن يعيش، لا أن يصارع من أجل البقاء. إن مفهوم الوقاية الذي يعمل المسؤولون على تطويره سيولد من الإصغاء إلى آلام، وكلمات الأمهات، فالمعرفة تكمن فيهان وفي قلبها. وسيستلزم تجميعها، وفهمها، وتحليلها، وفهم ما تعيشه الأمهات، وقتاً وصبراً طويلين. فإذا كانت آلاف الأمهات «يولدن» كل سنة، بإمكاننا القول إن عشرة في المئة منهن على الأقل، ما عدا اكتئاب ما بعد الولادة الذي يطال أكثر من نصف الأمهات، لا يشعرن بالراحة في وضعهن الجديد، على الرغم من التقدم الذي بلغه العلم.

نحن نعترف بفضل التقدم العلمي الذي نجح في الحفاظ على حياة الأم، ومولودها. إن قصص الحيوات التي أُنقذت لحظة الولادة، أو الإنجازات التي سمحت بالحمل كثيرة إلى درجة أننا نعجز عن تعدادها، وهي تثبت جميعها أن التقدم قد حصل ولا شائبة على وظيفته الحيوية لمجابهة الموت. لكن إزاء هذه القوة المتاحة لجعل انتصار الحياة ممكناً، ننسى أن التغلب على الموت عند الولادة ما هو إلا بداية حياة. يبقى بعدها أن على هذا الكائن الحي أن يسكن حياته، ويبنيها، ويديرها، ويجعل منها شيئاً يمكِّنه من الشعور بالرضى على نفسه، وعلى من يحيطون به.

إن الأمهات معترفات بفضل الطب في مرافقتهنّ في بداية أمومتهنّ عند ولادة الطفل، لكنهنّ نادراً ما يجرؤن على التعبير عن هذا الشرود في أفكارهن التي تراوح بين قطبين. هنّ يرَيْنَ أنفسهنّ كأمهات، لكنهنّ يبقين في حالة شك تعبّر عن الازدواجية الأبدية لدى الإنسان. وهذه الازدواجية التي تجد تعبيراً عنها في مسألة «القول أو عدم القول»، هي تردّد بين الشهادة أو الصمت، بين الإعجاب بلا تحفظ بالعلم كحليف، أو المخاطرة بانتقاده وخسارته. ومن هذه الازدواجية الصامتة تولد مسافة عميقة بين التقدم العلمي، وما تعيشه الأمهات. إضافة إلى أن الصمت، كما يقول بوريس سيرولنيك «هو نتيجة تواطؤ ثقافي يجد الجميع فيه فائدة».

اقرأ أيضاً:
- 8 طرق لدعم الأم الجديدة
- لهذه الأسباب.. تحتاج كل أم إلى وقت خاص بها