19 نوفمبر 2025

كيف تعاقب ابنك دون أن تؤذيه بدنياً ونفسياً؟

محررة متعاونة

مجلة كل الأسرة

نحن جميعاً ندرك جيداً أن العنف ضد الأطفال يُعدّ من أبشع السلوكات التي تنتهك براءة الطفولة، وتلحق بالطفل ضرراً، نفسياً وجسدياً، بالغاً، فهو ليس ظلماً للأطفال فقط، بل هو أيضاً إساءة للمجتمع بأسره، لأن الطفل المعنّف اليوم قد يصبح شخصاً مضطرباً أو عدائياً في المستقبل. ومع ذلك، لا يزال بعض الأهالي يمارسون الضرب كأنه الحل الأمثل لعلاج مشكلات أبنائهم التربوية.

ووفقاً لما ذكرته الدراسات التربوية الحديثة، فإنها لا تزال ترى أن الضرب لا يمكن أبداً أن يأتي بنتائج إيجابية، بل يؤثر سلباً في الصحة الجسدية والنفسية للأطفال. مشيرة إلى أنه في علم التربية الحديث الكثير من الوسائل التي من الممكن توجيه الأطفال بها إلى القيم الجيدة، والسلوك السليم، بعيداً عن الضرب والتعنيف.

طرحت «كل الأسرة» مشكلة تعنيف الأطفال وإيذائهم بدنياً من قِبل الوالدين على عدد من خبراء الطب النفسي المتخصصين في نفسية الطفل، وتعديل سلوكه، وسألتهم: كيف يؤثر العقاب البدني في نفسية الطفل؟ وما هي أساليب التعامل مع الأطفال الذين تعرّضوا للعنف؟ وكيف يمكن للأهل إصلاح علاقتهم بالطفل المعنّف؟

مجلة كل الأسرة

العنف البدني آثاره خطرة في الجميع

بداية، تؤكد الدكتورة إسراء جابر، استشارية التربية إيجابية وتعديل السلوك بالقاهرة، أن «العنف البدني له آثار مدمرة في صحة الطفل، النفسية والجسدية، ونحن، للأسف، في كثير من الأحيان نغضب على أبنائنا ونعاقبهم على أمور لا تستحق الغضب، ويكون سبب غضبنا هو كثرة ضغوط الحياة علينا، لذا ينبغي أن نفرق بين ضغط الحياة علينا، وضغطنا على أبنائنا، فلا يكون الأبناء متنفساً لنا من ضغط الحياة».

وتضيف: «علينا أن نحافظ دائماً على كرامة أطفالنا، فلا نصحح سلوكاً ما يصدر عنهم عن طريق العقاب والإيذاء، وبالتالي، نهدم شخصيتهم، فالطفل لا ينسى أبداً الإيذاء، بخاصة الجسدي، ولكنه يصمت، ويراقب، ويتألم. ودائماً ما أنصح الآباء والأمهات بأن يحذروا من الذكريات التي يزرعونها في أبنائهم من دون قصد، فهي تورث ما تسمى بالجروح الخفية التي لا نعلم عنها شيئاً، ولكنها تظهر لاحقاً عندما يكبر في شخصيته وفي ردود أفعاله ونظرته للحياة».

ووفقاً للأبحاث، تشدّد الدكتورة إسراء جابر على خطورة الآثار السلبية للعنف الجسدي ضد الأطفال، والتي تتركز أغلبها في نقاط عدّة:

- قد يؤدي الضرب إلى توليد الكراهية بين الطفل وأبويه، فبدلاً من أن تكون العلاقة بين الطفل وأهله مبنية على الاحترام والحب تصبح قائمة على الخوف والكره.
- تقل ثقة الطفل بنفسه، وينخفض معدل ذكائه، ما يجعل شخصيته أكثر انطوائية وخجلاً، وبالتالي أقلّ قدرة على الانخراط في المجتمع، وتكوين علاقات اجتماعية وصداقات.
- الطفل المعنّف، بالضرب أو بالكلام، يشعر بالإهانة، ولأنه ليس لديه القدرة على الرد بسبب ضعفه البنيوي سيختزنها في عقله الباطن لتظهر سلبياتها على شخصيته عندما ينضج، ويواجه المجتمع.
- يعتاد الطفل على الكذب نتيجة الضرب الذي يتعرض له، لذلك لا ينبغي أن نلجأ إلى القسوة ثم نشتكي أنه عنيد، وانطوائي، وجبان، وعدواني، أو أنه يعاني من تبولاً لا إرادياً، أو كوابيس أثناء النوم.
- الطفل المعنّف يشعر بالمهانة، والعزلة، والانطواء، ويصبح أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والجسدية، وتنمو لديه العدوانية والحقد. والأبحاث والدراسات تؤكد دائماً أن الضرب هو المسؤول الأول عن تحطيم الطفل، وإضعاف شعوره المعنوي بقيمته الذاتية فيجعل منه منطوياً على ذاته، خجولاً لا يقدر على التأقلم والتكيّف مع الحياة الاجتماعية.
- الضرب يبعد الطفل عن تعلم المهارات الحياتية، وفهم الذات، والطموح، والنجاح، ويجعل منه إنساناً عاجزاً عن اكتساب المهارات الاجتماعية، والتعامل مع الآخرين، أطفالاً كانوا، أو كباراً.
- الضرب يلغي الحوار والأخذ والعطاء في الحديث والمناقشة بين الكبار والصغار، ويضيع فرص التفاهم وفهم الأطفال، ودوافع سلوكهم، ونفسياتهم، وحاجاتهم.
- الضرب يعطي صورة سلبية للطفل عن نفسه، ويشعر بأنه غير محبوب، أو غير جدير باهتمام أقرب الناس إليه.
- تأثيرات في الدماغ، حيث أكدت الكثير من أبحاث الأعصاب أن التعرّض المستمر للضرب يمكن أن يغيّر من طريقة عمل دماغ الطفل، بخاصة في المناطق المرتبطة بالتوتر والانفعالات.
- ربما لا يتوقف الطفل المعنّف عن حب والديه، ولكنه يتوقف عن حب نفسه، وعلى عكس المتوقع لا ينفر ولا يبتعد عنهما، بل يصبح متعلقاً بهما أكثر، وتصبح مهمة الانفصال عنهما أصعب.
- ينشأ التكوين النفسي للطفل المعنف على الكره، والحقد، والضغينة، والمشاعر السلبية، ويخلق العنف في نفسه الرهبة، والريبة، والخوف من الآخرين، فيتبنى أسلوب التمرّد، والتحدّي، ورفض كل ما يقدم له من النصائح، حتى وإن كانت تصب في مصلحته الشخصية.

مجلة كل الأسرة

خطورة ضرب الطفل أثناء المذاكرة

وترفض الدكتورة إسراء جابر ما يمارسه بعض الآباء والأمهات من سلوكات تعنيف وضرب للطفل أثناء المذاكرة، ظناً منهم أنه وسيلة للانضباط، لكنه في الحقيقة يترك آثاراً سلبية عميقة. فالضرب لا يعلّم الطفل بل يجعله يربط الدراسة بالألم والخوف، فيفقد الرغبة في التعلم، ويبدأ بالكذب، أو إخفاء أخطائه خوفاً من العقاب.

وتقول: «الضرب يضعف ثقة الطفل بنفسه، ويجعله يشعر بأنه غير قادر على الفهم، ما يؤدي إلى تراجع مستواه الدراسي بدلاً من تحسينه. والأخطر أنه يزرع في قلبه مشاعر غضب تجاه والديه، ويفقد العلاقة بينهم الدفء والحب. والبديل الأفضل هو الصبر، واستخدام أساليب التشجيع والتحفيز، وتجزئة المعلومة للطفل حتى يستوعبها. ولا تنسَ أن التعليم رحلة تحتاج إلى دعم وهدوء، لا خوف وعنف».

مجلة كل الأسرة

الضرب... أبرز علامات الفشل في التربية

ويتفق معها الدكتور جمال شفيق، أستاذ علم النفس التربوي ورئيس قسم الدراسات النفسية للأطفال في معهد الدراسات العليا للطفولة بجامعة عين شمس، في أن الضرب لا يعلّم الطفل شيئاً بقدر ما يخيفه، ويشوّه تجربته في الطفولة. ويرى أن الأبوين اللذين يضربان طفلاً عمره أقل من خمس سنوات بحجة أنهما يقومان بتربيته غالباً ما يفشلان في عملية التربية كلها، لأن هذا الطفل سيكون غير قادر على الطاعة، ولا يمكنه السيطرة على رغباته كطفل، فكل ما يفعله هو خارج عن إرادته، وهو من ضمن طفولته.

ويواصل «للعقاب حدود يجب عدم المبالغة فيها، مهما فعل الطفل، لأن العقاب البدني القاسي يولد لدى الأطفال عُقداً نفسية تظهر نتائجها لاحقاً. لذلك، فإن عقاب الطفل بالضرب والتعنيف مرفوض تماماً، مهما أساء التصرف، ففي هذه الأمور خطورة بالغة، وإلحاق أضرار به. فأبناؤنا لن يتذكروا الطعام غالي الثمن الذي نملأ به المنزل، ولن يتذكّروا صراعاتنا المادية من أجل أن يبقوا في أفضل مستوى، وكذلك لن يتذكّروا، ولن يعرفوا الأقساط التي كبّلنا أنفسنا بها من أجلهم، علاوة على السهر، والوقت، والمجهود المبذول كي نسدّد مصاريفهم، ولن يشعروا بالقلق الذي يحاصرنا من أجل راحتهم! ولكن سيخلد في ذاكرتهم فقط الوقت الذي كسرنا فيه شخصيتهم بالاعتداء عليهم والقسوة التي تعاملنا بها معهم، فبعض بيوتنا تعاني فيها العائلات شحّاً عاطفياً كبيراً، حيث القيم لديها تتوقف عند حدود الطعام والكسوة وتوفير الأشياء المادية».

مجلة كل الأسرة

مظاهر عنف نمارسها ضد الأطفال من دون أن نشعر!

وينبه الدكتور جمال شفيق إلى مظاهر أخرى من العنف، بخلاف العنف البدني، قد نمارسها مع أبنائنا من دون أن نشعر بذلك، وقد يعتقد بعض الآباء أنها أقلّ خطورة وتأثيراً من الضرب، ولكنها تفسد مشوار التربية، ومنها:

أولاً: منع الطفل من الحركة عندما يكون في حاجة إلى ذلك. فعندما تجبر الطفل على عدم الحركة، والجلوس في الوقت الذي يحتاج فيه إلى اللعب راضخاً بذلك أمام منطق القوة من قبل الأب أو الأم، مقابل الضعف لديه، سيجعل ذلك ابنك يشعر بالعجز، وغالباً ما نستخدم هذا النوع من العنف يومياً، من دون الشعور منا بذلك، وغير مدركين عواقبه وأضراره على نفسية الطفل، وشخصيته.

ثانياً: إجبار الطفل على القيام بسلوكات معينة، أو الامتناع عن سلوكات معينة من دون أن نوضح له أسباب ذلك، أو أن يقتنع بها.

ثالثاً: ربط مكافأة الطفل بالعمل الذي يقوم به، ومنعها أن لم يتحقق العمل، وبهذا الأسلوب يخضع الطفل للغة العنف هذه دائماً، ويشعر بعدم استحقاقه.

رابعاً: الأب الذي يفرض رأيه باستمرار، ولا يسمح للأبناء بإبداء وجهات نظرهم، وطرح أفكارهم، وإصدار أحكامهم، من دون منح الأبناء فرصة الحديث والتعبير عن رأيهم.

خامساً: التفسير الذاتي لمواقف الأبناء وسلوكاتهم من دون الاستماع لهم، ومن دون العلم بخصائص النمو لديهم، ما يفسر دوافعه تجاه السلوك.

سادساً: التهديد المستمر للأبناء، مثلاً لو لم تفعل ذلك السلوك سوف تعاقب، أو لو فعلت ذلك السلوك سوف تعاقب.

وللأسف قد يقوم الآباء بكل ما سبق، أو بعضه، اعتقاداً منهم أن ذلك يهذب من سلوك الطفل، ولكنه على العكس، يجعل الطفل معرّضاً للعنف باستمرار، فينعكس ذلك على نفسية الطفل وشخصيته، ويفقده ثقته بنفسه.

مجلة كل الأسرة

التعامل مع الأطفال المعنّفين ونصائح للتعافي

أما الدكتورة صفاء محمد حمودة، استشارية الطب النفسي للأطفال والمراهقين بالقاهرة، فتؤكد، هي الأخرى، أن الطفل المعنف جسدياً من قبل الأهل هو مشروع مجرم، أو شرطي حاقد، أو طبيب خالٍ من المشاعر الإنسانية، أما الذين مارسوا عليه العنف في الصغر فسيعانون قسوته في الكبر، لأنهم انتهكوا حرمة جسد ضعيف لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وأي ظلم يتعرضون له هو دين سيحين وقت سداده.

وتقدم الدكتورة صفاء حمودة إرشادات للتعامل مع الأطفال وتوجيههم من دون عنف، منها:

- فكّر جيداً قبل أن تتجرأ على طفلك الصغير، مهما كانت نيتك حسنة، سواء كنت تقصد تأديبه، أو تربيته، وتعليمه، أو بغرض خوفك عليه، فإن جرح الطفولة لا ينسى، وتبني عليها شخصية ابنك، لذلك فالوقاية خير من العلاج.
- تعليم طفلك وتوجيهه ليس الهدف منه طاعتك، وإنما الهدف منه التربية ذاتها، لذلك لا تحاسبه على أشياء يفعلها بنظرك هي أخطاء، وهي في الحقيقة ليست كذلك بالنسبة إليه كطفل، مثل أن يكسر لعبته، أو تلك الفوضى التي يتركها خلفه، أو عدم عنايته وحفاظه على أشيائه.
- من المؤكد أن تربية طفل سويّ نفسياً أهم من طفل متفوق دراسياً، لذلك ليس المهم أن يحفظ الدروس عن ظهر قلب، بل أن يعرف كيف يعبر عن مشاعره من دون خوف، وكيف يعتذر حين يخطئ، ويسامح حين يؤذي، وليست العبرة أبدا بدرجاته في الامتحان، بل بثقته حين يتحدث، وبكرامته حين يعامل، وبضميره حين يختبر. وحين يتعثر الطفل دراسياً فإنه لا يحتاج إلى مزيد من الضغط بل مزيد من الاحتواء، ولا يحتاج إلى عقاب يوجعه، بل إلى قلب يفهمه، فمن السهل أن تخرّج طالباً متفوّقاً لكن الأصعب والأجمل أن تخرّج إنساناً متوازناً يعرف قدر نفسه، وقيمة غيره.
- أقول للآباء والأمهات الذين اعتادوا استخدام الضرب أن يعتادوا ضبط النفس، وتخفيف الأمر بالتدريج، وألا يستعملوا الضرب في تأديب أولادهم إلا حين تخفق الموعظة والتأنيب، وليكن ضربهم لهم ضرب تربية، لا ضرب انتقام، وتجنب ضربهم وقت الغضب الشديد منهم، وأن يحذروا موطن الأذى من أجسامهم، وأن يقللوا من استعمال الضرب كوسيلة للتأديب.
- التحدث بهدوء وثبات مع الطفل سيجعله يستمع جيداً لنصائح الوالدين، ويطيع التعليمات بشكل أفضل.
- يجب استخدام التعاطف كمحاولة لفهم الأسباب وراء سلوكات الطفل المرفوضة، فهو يؤتي نتائج مثمرة وإيجابية أفضل بكثير من التركيز على العقاب.
- وضع قواعد محدّدة وواضحة مع توضيح العواقب بشكل مسبق يقلل من ارتكاب الطفل للأخطاء.
- استخدام «وقت التهدئة» للأبوين وللطفل يحلّ الكثير من المشكلات، قبل أن نفقد أعصابنا، ونلجأ إلى العنف.