
الجلسات العائلية ليست مجرد لحظات عابرة نقضيها مع الأبناء، بل هي استثمار في مستقبلهم، فالتواصل المستمر هو الأساس في بناء علاقة صحية مع الأبناء، ومهما كانت ضغوط العمل والحياة يجب على الأبوين تخصيص وقت يومي أو أسبوعي لقضاء وقت مع الأسرة.
متعة الجلوس مع الأبناء هي تجربة غنية تعزز الروابط الأسرية وتخلق ذكريات لا تنسى. تتيح هذه اللحظات للأهل فرصة للتواصل مع أبنائهم بشكل أعمق، ما يساعد على بناء الثقة وتعزيز العلاقات، ومن خلال هذه الأوقات المشتركة والجلسات العائلية يمكن للعائلات بناء أساس قوي من الحب والدعم، ما يساهم في تنشئة جيل صحي وسعيد.
طرحت «كل الأسرة» عدة تساؤلات على عدد من خبراء التربية والعلاقات الأسرية حول أهمية الجلسات العائلية، وكيف تؤثر في نفسية الأبناء وسلوكهم؟ ولماذا يهرب بعض الأبناء من أي جلسة أسرية أو نزهات عائلية؟ وكيف نعيدهم إلى أحضان الأسرة مرة أخرى؟ وكيف ينجح الأبوان في بناء ذكريات طيبة مع الأبناء حول قضاء الأوقات معاً داخل الأسرة؟

فوائد لمة العائلة على الأبناء
في البداية، تؤكد الدكتورة لبنى الشباسي، الاستشارية النفسية والمتخصصة في العلاقات الأسرية ونفسية الطفل وتعديل السلوك بجامعة عين شمس، أن اجتماعات الأسرة في لقاءات عائلية يمنح الجميع جرعات كافية من الوفاء والمحبة والرحمة والمودة، ما يؤلف بين القلوب، ويزيد الحب، وينشر المودة بين أفراد الأسرة.
وتقول «لكن للأسف بعض الأهل لا يفهمون قيمة اللقاء الأسري، ويتهربون منه ومن البيت، ويخرجون للبحث عن السعادة في قضاء أوقاتهم مع الأصدقاء والأقارب، رغم أن السعادة الحقيقية هنا في البيت مع الزوجة والأولاد، أو مع الأم والأب والإخوة والأخوات».
وتلفت الاستشارية الأسرية إلى أن اللقاءات الأسرية والاجتماعات العائلية تعد بمثابة اللقاح أو المصل الذي يمنع تفكك الأسر، وتشتت الأفراد، وهدم البيوت. وكل أفراد الأسرة يحتاجون إلى هذه اللقاحات الروحية والنفسية بنفس قدر حاجتهم إلى اللقاحات الطبية ضد الأمراض المُعدية والفيروسات المُمْرِضة.
وتشدد الاستشارية الأسرية على أن الجلسات العائلية لها تأثير كبير في حياة الأبناء، فهي ليست مجرد أوقات فراغ نقضيها معاً، ومن أبرز هذه التأثيرات:
1. الجلسات العائلية تبني لدى الأبناء الذكريات الجميلة، وتترك أثراً دائماً في نفسية الأبناء، وتساعد على بناء شخصياتهم.
2. اللحظات السعيدة مع الأهل تعزز الثقة بالنفس والشعور بالأمان.
3. الجلسات العائلية تجعل الأبوين يخالطان أولادهما ويعيشان معهم تفاصيل حياتهم، وتزيد تأثرهم بهما أو تقبُّلهم لكلامهما.
4. من خلال الاجتماعات العائلية التي تقربنا من الأبناء نعرف اهتماماتهم، وصفاتهم، والمدخل المناسب معهم، وطريقة توجيههم المناسبة.
5. تجمُّع الأسرة المنتظم فرصة للآباء والأمهات لمتابعة أولادهم من كثب وملاحظة كل تغيير يطرأ على حالتهم النفسية، كما يتيح فرصة للآباء والأمهات لإظهار اهتمامهم ودعمهم لأبنائهم خاصة في سن المراهقة لحمايتهم من الفتن والشطط.
6.أجواء الجلسات العائلية تنقل الخبرات عبر الأجيال وتصحح المفاهيم الخاطئة التي قد يلتقطها الأولاد.

دور الأهل في تهرّب الأبناء من الجلسات العائلية
أما الدكتورة أميرة يوسف، استشارية طب نفسي أطفال ومراهقين بجامعة عين شمس، فتتفق أن التربية الخاطئة للأبناء من أهم أسباب العزلة الاجتماعية، حيث يؤدي التخويف والردع والتعنيف إلى جعل الأبناء في عزلة عن الآخرين.
وحول أهم الأسباب التي تجعل الأبناء لا يتحمسون للجلسات العائلية ويفضلون العزلة، توضح الدكتورة أميرة يوسف:
1. للأسف بعض الأهل يجعلون الجلسة العائلية وقتاً للحساب والنقد والعقاب ومناقشة الأمور الخلافية والمشكلات المتراكمة، رغم أننا يجب أن نغتنمها لمشاركة الذكريات الجميلة وتبادل الأحاديث اللطيفة مع الأبناء.
2. قضاء وقت جيد مع الأبناء يحتاج منا ألا نترك لهم ذكريات سيئة عن تجمعات الأسرة، فلا نتصيد لهم الأخطاء، ولا نتشاجر معهم ولا نوبخهم لأسباب تافهة، لأنهم بذلك ومع مرور الوقت سيلتمسون كل الحجج والأعذار للتهرب من تلك التجمعات.
3. بعض الآباء يتعاملون بديكتاتورية في إدارة الجلسة العائلية أو حتى السهرة أو النزهات التي يقضونها معهم، بمعنى أنهم يفرضون على الأبناء أين نذهب، وكيف نقضي الوقت، وماذا نشاهد، وماذا نأكل دون استشارة الأبناء أو حتى الامتثال لرأيهم، فيشعر الأولاد بأنهم مرغمون على قضاء الوقت رغماً عنهم، فيهربون من هذه التجمعات كلما سنحت لهم الفرصة.
4. غياب الحوار مع الأبناء يجعلهم في واد آخر معظم الوقت، لا يقدّرون ما يقوم به الأبوان من تضحيات وجهود من أجلهم، وبالتالي يفضلون دائماً قضاء أغلب أوقاتهم بعيداً عن تجمعات الأسرة.
5. التأثير الانعزالي الذي زرعته الـ"سوشيال ميديا" في نفوس هذا الجيل من الأبناء خلق لديهم رغبة أكيدة في قضاء أغلب أوقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بعيداً عن التواصل الفعلي مع الآخرين، ووصل عند بعضهم إلى مرحلة الإدمان.
6. الجري واللهث وراء المشاهد المثالية الكاذبة التي تجعلهم غير راضين عن حياتهم ويطمحون دوماً للحصول على تلك الحياة المثالية والسعادة الكاذبة غير الموجودة في الواقع.
7. عزلة المراهقين قد يكون سببها الشعور بعدم تفهّم الأهل احتياجاتهم واهتماماتهم، ما يزيد رغبتهم في العزلة، ويجب على الأهل الانتباه لهذه الحالات التي تصيب أبناءهم حتى لا تتطور فتتكوّن شخصية أولادهم داخل غرفة مغلقة وفي عالم منفصل تماماً عن الأسرة.
8. التفريق بين الأبناء داخل الأسرة يسبب لهم حالة من العزلة والانطواء. لذا يجب مراجعة النفس من قبل الوالدين في الطريقة التي يتعاملان بها مع الطفل والتي أدت إلى وصوله للعزلة، وعدم التفرقة بينه وبين إخوته، ومنحه الحب والأمان والدفء.

كيف نعيد الأبناء إلى التجمعات العائلية مرة أخرى؟
من جانبه، يقدم الدكتور باسم سليمان، استشاري الطب النفسي بكلية الطب جامعة الإسكندرية وعضو الجمعية المصرية للطب النفسي، مجموعة من الإرشادات التي تساعد الأبوين على بناء علاقات قوية مع الأبناء وجذبهم للحوار والتواصل من خلال الجلسات العائلية بعيداً عن الغرف المغلقة:
- اجتماعات الأسرة ضرورة تربوية ومن أفضل الأوقات، ومن أهمها الاجتماع على مائدة الطعام، ولكن للأسف بعض الأسر يتناول أفرادها طعامهم كل حسب مزاجه، ولا يوجد وقت محدد يجتمعون فيه. لذا من المهم أن يجتمع أفراد الأسرة على وجبة واحدة على الأقل، وحبذا لو كان هناك جلسة شاي عائلية مع مشاهدة جماعية لبرنامج مثلاً، أو جلسات دردشة فردية مع كل واحد من الأبناء نصف ساعة أو ربع ساعة.
- الجلسات العائلية ليست لفرض الآراء وإعطاء الأوامر وإلقاء التنبيهات والمواعظ، وإنما هي محاولة للاحتواء والتقارب والتفاهم بين أفراد الأسرة للوصول بكل فرد إلى شاطئ الأمان، وحماية كل فرد من الأخطار التي تهدده، وقبل كل شيء لبث روح التفاهم والتعاون والتآلف بين أفراد الأسرة ونشر أسباب السعادة فيها.
- الجلوس مع العائلة يهم فيه النوعية والجودة أكثر من الكمية، أي أن جلسة قصيرة عائلية مرحة مبنية على التفاهم والحوار المتبادل خير من جلسات طوال يسودها الصراخ والملل.. وكذلك الاهتمام يجب أن يكون بالنوعية أكثر من الكمية.
- فن صناعة الذكريات مع الأبناء يلهم الآباء لتخصيص وقت لبناء لحظات لا تنسى مع أطفالهم. الرسالة الأساسية هي أن الحب يظهر في التفاصيل الصغيرة، والذكريات هي الجسر الذي يربط القلوب عبر الزمن. اجلسوا مع أنفسكم جلسات عائلية وأنصتوا بعضكم لبعض.
- اتركوا مجالاً للأبناء لإثبات أنفسهم وتقوية شخصياتهم، والأهم أن نسمع مشكلاتهم دون التقليل من قيمتها مهما بدت في نظرنا بسيطة وغير مهمة.
- اجعلوا الجلسات العائلية الهادئة مع الحوار المنظم أساساً لحل جميع الخلافات بينكم، ودعوا الأبناء يطرحوا أراءهم، ولا تمنعوهم من الحديث فيحصل لهم الكبت النفسي والانعزال والانطواء، بل حاوروهم وشاركوهم، واجلسوا معهم، ونظموا لهم أوقاتهم.
- ينبغي استخدام عبارات تشجيعية وتحفيزية للحوار والتواصل من الوالدين تجاه الأبناء، وإعطاؤهم مساحة من التحدث والتعبير عن آرائهم، واحترام تفكيرهم وعدم الاستهزاء بهم.
- الأسرة السوية الناجحة هي التي تحرص دوماً على تحديد مواعيد ثابتة لتناول الوجبات الثلاثة وخاصة وجبة الغداء الرئيسية في منتصف اليوم لتناسب مواعيد جميع أفراد الأسرة، سواء الأب أو الأم وبالطبع الأبناء، ومن هنا يجب على كل أسرة أن تهتم بهذا الأمر وتجعل من مواعيد تناول الطعام ضرورة، والتفاف جميع أفراد الأسرة حول مائدة الطعام أمر أساسي.
- يجب على الأهل ألا يتركوا أولادهم ليل نهار نشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، والتنبيه عليهم بعدم الإفراط في استخدامها لجذب الأبناء بعيداً قليلاً عن العالم الافتراضي الذي يعيشون فيه، وتذكيرهم بمعنى الخصوصية، وأهمية ألا تكون حياتنا الشخصية على مرأى ومسمع من الآخرين، خاصة أن الأجيال الجديدة التي أدركت معنى الحياة بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي لا تدرك الخصوصية بشكل صحيح، ولا ترى أي غضاضة في مشاركة جميع أوقاتها وكل تفاصيل حياتها على هذه المواقع.
- يجب على الأم أن يكون لها أكثر من جلسة خاصة مع أولادها خلال اليوم الواحد، وأن تتعلم مهارة الإصغاء إلى أبنائها كي يتعلم الأبناء ملكة الإصغاء إليها وإلى أبنائهم في المستقبل. فمن أهم الأمور أن تنجح الأم في تكوين علاقات ودودة وطيبة بالأبناء في كل المراحل، خاصة في فترة المراهقة المبكرة، فيمكننا بذلك حماية أولادنا من كل المخاطر التي تحيط بهم.