
لماذا يضع الرجال الحواجز بينهم وبين عواطفهم؟ ولماذا يخشون التقرُّب من أنفسهم، ومن الآخرين؟

يجيب المحلل النفسي، غي كورنو، عن هذه الأسئلة من خلال كتابه المعنون «الأب الغائب والابن الضائع»، الذي يعود فيه إلى العلاقة بين الأبناء والآباء. فصمت الأب يثير لدى الولد عدم اليقين في ما يخصّ ذكوريّته، وهو نقص يدوم حتى سِن الرشد. وحينما يكبر هذا الابن، يسارع إلى إخفاء جراحه خلف قناع زير النساء، أو الابن الرضي، أو المراهق الأبدي، أو البطل، إلخ.
في واحدة من جلسات اللجنة النيابية المهتمة بشؤون الصحة النفسية في كندا، عبّر الدكتور هيوبرت والوت، وهو طبيب وأستاذ في جامعة كيبيك، عن دهشته من عدم وجود مجلس وطني يهتم بظروف الرجال. وإذ أبرز الإحصاءات التي بحوزته، عمل على إثبات هشاشة صحة الرجال العامة، وقال: «في سِن الرشد، يحتل الرجال مساحة كبيرة ضمن فئات اضطرابات الشخصية، من وسواس الاضطهاد، إلى الوسواس القهري، والنزعات المعادية للمجتمع، كما تشهد على ذلك أعداد الرجال المرتفعة في السجون. كما تعتبر أعداد الرجال أكبر بكثير في مجالات التحوُّل الجنسي، والمثلية الجنسية، والانحرافات الجنسية».
وأفاد الدكتور والوت بأن نسبة الرجال الذين يعانون الإدمان على الكحول والمخدرات تفوق بأربعة أضعاف نسبة النساء، وبثلاثة أضعاف في حالات الانتحار والسلوكات العالية المخاطر. وهم، أخيراً، بأعداد أكبر بكثير بين المصابين بالشيزوفرينيا. وانتهى الطبيب إلى القول إن غياب الأب والنماذج الذكورية، بشكل متكرّر، عن الابن الصغير، تبدو عاملاً هامّاً في الإصابة ببعض مصاعب السلوك المتصلة بتوكيد الهوية الجنسية لدى الرجل».
واسترسل هذا الخبير في شرح ما يقصده بأنه يمكن القول باختصار، إن الرجال، خلف ستار الاستقلالية، يحتاجون إلى مساعدة، ويبحثون عن آبائهم. وقد لاحظت بنفسي هذا التعطش الذكوري الكبير، هذه الحاجة العميقة لدى الرجال إلى الاجتماع معاً، وتدارس أوضاعهم. فإثر محاضرة ألقيتها عنوانها «الخوف من التقارب الحميم والعدائية المكبوتة عند الرجال»، عملت على جمع مجموعة من الرجال في ورشة عمل مدّتها يوم واحد. وفي اليوم التالي، كان واحد وعشرون رجلاً بانتظاري، وجميعهم من أرباب الأسر، والمطلقين، والعزّاب... ومن جميع أنواع المهن، كالطباخ، ومهندس الديكور، والمحاسب، والفنان، والمعالج النفسي، والموظف، والأستاذ، تراوح أعمارهم بين العشرين والخمسين سنة. كان ذلك اليوم بمثابة اكتشاف عظيم بالنسبة إليهم، وقد أعلنوا بعدها أنهم يرغبون في مواصلة العمل على أنفسهم معي بشكل منتظم.
وعند أول سؤال طرحته عليهم، وهو: «هل تشعرون بأنكم رجال؟»، لم يرد عليّ أيّ منهم بالإيجاب، حتى أولئك المتزوجون منذ أكثر من عشرين عاماً! والسبب هو أن الشعور بالهوية لا يتطابق بالضرورة مع التجربة المعيشة، ولكن مع ذلك الانطباع الداخلي بأنك تملك أسس هذه الهوية.
في الكثير من المجتمعات اليوم، يختار الرجال الزواج والإنجاب في سِن متأخرة، ما بين 35 و40 سنة. ألا يشكل هذا مؤشراً على الوقت الذي يلزم لهؤلاء الرجال حتى يعززوا هويتهم ليصبحوا آباء بدورهم؟ حتى لو كان ثمة الكثير من العوامل الأخرى، ومن بينها الصعوبات المادية، والتغييرات التكنولوجية العميقة والمتتالية بسرعة مفزعة، من دون الحديث عن اللا يقين الذي يسود بشأن مصير بيئة كوكب الأرض.

تغييب الأب
تلك الصعوبات المتزايدة في أيامنا هذه تسهم، إلى حد كبير، في تغييب الأب. فالتنظيم الاجتماعي المستند إلى النظام البطريركي الذي مكّن أجيال الذكور السابقة من الوقوف على أقدامهم، يتعرّض لعوامل تعرية. بيد أن التعطش إلى وجود الأب يظل محفوراً في داخلنا. لذا، يتعرض الرجال إلى مشكلة هوية تتخطاهم، في حين ينصحهم كبارهم نصيحة واحدة، وهي «اصبر على المشاكل حتى تنتهي». بعضهم يجد في حياة مهنية هامّة في عيون الأب تعويضاً يملأ فراغهم الداخلي، وبعضهم الآخر يعثر على بديل للأب، لكن ينبغي أن نعترف بأن الرغبة لدى ال في أن يعترف والده به، وبإنجازاته، تظل كامنة في أعماقه.

لذا يتعيّن علينا أن نفكر، ونتأمل في توقعاتنا إزاء آبائنا. فرغبتنا لا تشبع لأننا نبحث عن اعتراف أبٍ مثالي ونموذجي بنا. نريده رياضياً، وقادراً على تعليمنا فنون الرياضة، ونريده محبّاً للطبيعة، وقادراً على تعليمنا الصيد، البري والبحري، ونريده مثقفاً يعلّمنا القراءة والتفكير، ونريده فناناً يفتح عيوننا على عجائب الخيال، ونريده أحياناً أباً صارماً، وأباً رفيقاً لنا.
وفي الحقيقة، كل هذه المتطلبات تتخطى، بكثير، قدرات أيّ كائن بشري. ونحن نطلب من آبائنا ما لا يستطيعون أن يقدموه لنا، فهم بشر مثلنا. كما أن كل المعارف التي كان يتلقاها الابن في الأيام الغابرة لم تكن تأتيه من أبيه وحده، بل من كل آباء العشيرة. والرجل بحاجة إلى نماذج ذكورية عدّة، حتى يتمكن من بلوغ فرديته.
لذا، يتعيّن على الابن الراشد أن يقبل بخسارة كل ما تخيّله من مُثُل خاصة بالأب، وأن يتعلم كيف يكون أباً لنفسه، ويملأ فراغه من طريق الإبداع. والانتقال من وضعية الابن إلى وضعية الرجل يعني الكفّ عن الشكوى، وعن مناجاة ذاك الأب المثالي، من أجل العمل على تحقيق هذا المثال بأنفسنا. إن مهمة أولئك الذين عانوا غياب الأب هي أن يصيروا هم الآباء الذين يرغبون فيهم. وفي المجال النفسي، يمكننا القول إننا لا نستطيع أن نعطي حقاً ما لم نتلقّه. فهنا يكمن لغز الإبداع البشري.

كيف السبيل إلى الشفاء من غياب الأب؟
يقول المحلل النفسي ستيفن شابيرو، إن رؤيتنا لغياب الأب هي رؤية ميثولوجية، بمعنى أنها نتاج عقدة أبوية سلبية تجعلنا نرى نواقص آبائنا فقط، وننسى حسناتهم. صحيح أنه من الصعب تخطّي آلامنا حتى ندرك كل الحب الذي يحمله أهلنا لنا، وقد نتألم إذ ندرك مدى كرمهم وتضحياتهم إزاءنا، لكن كيف يمكن لرجل أن يشفي الأب الجريح في داخله، وأن يخرج من غضبه المرّ تجاه والده الحقيقي؟
يقترح العالم النفسي أوشرسن استكشافاً عميقاً لماضي الأب، من أجل فهم معاناته، وتطوير تعاطف يمكن أن يساعد الابن على مسامحته. كما يتحدث هو أيضاً عن ضرورة التخلي عن أسطورة الأب المثالي، ويذكر الفوائد التي تنجم عن حوارات خيالية مع أب قد توفي، أو يعيش بعيداً، وهي حوارات قد تأخذ شكل رسائل، أو أدوار نفسية، تشكل فرصة للتعبير عن الغضب المكبوت، وخيبة الأمل، كما تسمح بإخراج هذا الألم ليتحوّل إلى شيء يمكن تقبّله. وتساعد هذه التبادلات الابنَ على الخروج من سجن اللاوعي، وعلى تحويل ما لا يزال حارقاً إلى مجرّد ذكريات.
إن إدراك معاناتنا، ومعاناة آبائنا من قبلنا، يجب أن يجعلنا نعمل على عدم نقلها إلى أبنائنا، لأن مهمة الرجال الجدد، في هذه الأيام، هي كسر توارث الصمت الذكوري بين الأجيال. وقد يكون هذا العمل الأكثر ثورية الذي يمكن أن نقوم به.
ويجب على من لا يزالون يمتلكون إمكانية الحوار الحقيقي مع آبائهم الحقيقيين أن يفعلوا هذا، من دون تأخير، على الرغم من المخاوف والإحباطات التي قد تتولد عن هذه المحاولة، وعلى الرغم من خيبات الأمل، أو الرفض الذي قد تحمله معها.. يجب أن نقاوم من أجل ألّا نغرق في صمت آبائنا، وأن نحاول ردم الهوّة التي تفصلنا عنهم.
وعند ردم هذه الهوّة، نكون قد وضعنا بلسماً على ذلك الشرخ الفظيع القائم بين الفكر المجرّد وغير المجرّد عند البشر، وبين هذا العالم الذي يزداد قسوة، يوماً بعد يوم. لقد آن الأوان حتى نعترف بنقاط ضعفنا، وباحتياجاتنا العميقة، وبعنفنا الداخلي. وآن الأوان حتى نعبّر عن رؤيتنا، وحتى نظهر كما نحن أمام المحيطين بنا.
يشهد المرء في حياته ثلاث ولادات. يولد من أمه، ويولد من أبيه، ويولد، أخيراً، من ذاته العميقة. وهي ولادة فرديته التي لا يمكن أن تتحقق إلا عندما نتخلى عن توقعاتنا الخيالية إزاء آبائنا، لنرجع إلى واقع العالم الموضوعي الذي يصير مجالنا الجديد.
اقرأ أيضاً: بعد رحيل الأب.. كيف تتعامل الأم مع إحساس أولادها باليتم؟