07 أبريل 2025

الاستقرار المالي والصحة النفسية.. وجهان لعملة واحدة

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

يلعب الاستقرار المالي دوراً محورياً في تعزيز الصحة النفسية، فبينما يسهم في توفير الشعور بالأمان، وتقليل مستويات التوتر والقلق، تقود الأزمات المالية إلى ضغوط نفسية يمكن أن تمتد آثارها إلى العلاقات الاجتماعية، ما يجعل التخطيط المالي ضرورة ملحّة للحفاظ على التوازن النفسي.

يمثل المال ركيزة أساسية في حياة الإنسان، فمن خلاله يستطيع تأمين حياة كريمة، والاستمتاع بالاستقرار، والتخطيط لمستقبله، ومواجهة التحدّيات غير المتوقعة، إلا أن غياب الاستقرار المالي قد يدفع الأفراد إلى مواجهة سلسلة من الأزمات، النفسية والاقتصادية، أبرزها الشعور بالخوف، وعدم الأمان.

مجلة كل الأسرة

غياب التخطيط المالي

يوضح المستشار المالي عبد الله العطر «أحد أكبر أسباب القلق المالي هو عدم امتلاك الفرد لاحتياطي نقدي يساعده على مواجهة الأزمات الطارئة، والظروف المفاجئة، مثل المرض، والحاجة إلى السفر المستعجل، أو أي نفقات غير متوقعة، تضع الشخص في موقف صعب، بخاصة إذا لم يكن لديه موارد مالية جاهزة تغطي هذه الحالات».

يضيف العطر «غياب التخطيط المالي يشعر الفرد بزيادة صعوبة الحياة، مع مرور الوقت، ليس لقسوة الظروف، بل لأنه يستهلك من طاقته النفسية في محاولة البقاء والاستمرار تحت ضغط العوز المالي، فعندما يجد الفرد نفسه مضطراً لمواجهة متغيّرات الحياة من دون أي سند مالي، فإنه يدخل في دائرة من الإرهاق النفسي والجسدي، التي تؤثر، بالتالي، في إنتاجيته، وعلاقاته بالمحيط فيزيد تخوفه من المستقبل».
لكن في ظل التحدّيات الاقتصادية المتزايدة، يبقى السؤال: كيف يمكن للأفراد تجنب الوقوع في فخ الأزمات المالية المستمرة، وبناء حياة مستقرّة، تضمن لهم الأمان والراحة النفسية؟

مجلة كل الأسرة

الاستقرار المالي لا يعني امتلاك المال فقط، بل يعني القدرة على مواجهة الحياة من دون خوف من المفاجآت التي قد تقلب مسار الأمور في أيّ لحظة...

ويشير العطر «هنا لابد من استراتيجيات عدة، ليس لضمان الأمان المالي فقط، بل لمساهمتها في تحسين جودة الحياة، وتخفيف الضغوط النفسية، ومنح الفرد المزيد من الحرية، والقدرة على اتخاذ قرارات مالية ذكية، من دون خوف من المستقبل، منها:

- وضع خطة مالية تعتمد على قاعدة 80/20 وذلك بـ:

  • تخصيص 80% من الدخل لتغطية المصروفات الأساسية والمعيشية.
  • تخصيص 20% من الدخل للادخار والاستثمار، ما يضمن بناء أمان مالي مستدام.

- الاستثمار في الأصول الآمنة: توجيه المدخرات نحو أصول استثمارية تضمن عوائد مستقبلية، مثل (العقارات، والأسهم، والصكوك، والسندات، صناديق المؤشرات، الذهب).
- بناء مركز مالي مستقر:

  • زيادة المدخرات بشكل تدريجي لضمان وجود احتياطي نقدي يساعد على مواجهة الأزمات.
  • تنويع مصادر الدخل من خلال استثمارات طويلة الأجل تضمن تدفقات مالية مستمرة.

- تجنب العيش في دوامة العوز المالي:

  • التخطيط المسبق للالتزامات المالية وعدم الإنفاق بما يتجاوز الإمكانات.
  • التركيز على تحقيق المرونة المالية التي تمنح القدرة على التكيف مع الظروف المتغيّرة.

- تعزيز الحماية المالية على المدى البعيد:

  • تكوين رأس مال يحمي من التقلبات الاقتصادية غير المتوقعة.
  • العمل على تحقيق الاستقلال المالي من خلال مصادر دخل متنوّعة، ومستدامة».
مجلة كل الأسرة

توتر نفسي دائم

من جانبها، تكشف المستشارة النفسية نوره النقبي «إن عدم القدرة على تحقيق التوازن بين الدخل والإنفاق يؤدي إلى ضغوط متراكمة، قد تتطور إلى اضطرابات نفسية، مثل القلق والاكتئاب، فضلاً عن تأثيرها في العلاقات الاجتماعية، والاستقرار الأسري». مؤكدة أن الأموال ليست مجرد أرقام في الحساب المصرفي، أنما هي عامل رئيسي يؤثر في جودة حياتنا، ورفاهيتنا النفسية، وتضيف «الشعور بعدم الاستقرار المالي يتصدر قائمة استبيانات أسباب التوتر، ففقدان الإحساس بالاستقرار المال يولّد ضغطًا كبيراً، ويضع الفرد في دائرة القلق المستمر حول التزاماته المعيشية والمستقبلية».

وتوضح «الأفراد الذين يعانون أزمات مالية غالباً ما يعيشون حالة من التوتر النفسي الدائم، حيث يسيطر عليهم الخوف من المجهول، فالشخص الذي يعاني الديون يجد نفسه في حالة قلق دائم ممّا يمكن أن يحدث له، ولأسرته، وكيف سيتعامل مع التزاماته المالية، وكيف سيؤمّن مستقبل أبنائه.. هذه المخاوف تتحول إلى ضغط نفسي شديد قد يصل إلى حد الاكتئاب». تشرح «الاكتئاب الناجم عن الأزمات المالية لا يقتصر على الحزن، أو الإحباط العابر فقط، بل قد يكون مرتبطاً بالشعور بالفشل، أو فقدان الجهود التي بذلها الفرد في ما مضى من السنوات، فإحساس الشخص بأنه قد أفنى وقته وجهده بالعمل، ومع ذلك يجد نفسه غارق في الأزمات المالية والديون، يشعره باليأس والإحباط، وبالتالي يؤثر في حالته النفسية والجسدية».

وتكشف النقبي عن تداعيات الاستسلام لتأثير الأزمات المالية «الأشخاص الذين يعانون ضائقة مالية يعيشون في دوامة من التفكير المستمر في المستقبل، بالتالي تؤدي إلى اضطرابات نفسية متعدّدة، مثل الأرق، قلّة النوم، ونوبات من البكاء، وفي حالات أخرى يلجؤون إلى سلوكات خطرة للهروب من الواقع الذي يعيشون فيه، كاللجوء إلى تعاطي الكحول، أو المخدرات، وفي الحالات الأشد خطورة وتطرفاً، يبدأ الشخص بالتفكير في الانتحار، بخاصة عندما يشعر بالعجز التام عن تجاوز أزمته المالية، أو سداد ديونه».

تختم المستشارة النفسية «تحقيق الاستقرار المالي هو مفتاح لتحسين الصحة النفسية، حيث إن القدرة على إدارة الأموال بفعالية، ومعرفة الاستراتيجيات العملية للتعامل مع الضغوط تساعد على تحسين الوضع المالي، وتزيد الإحساس بالراحة النفسية».

مجلة كل الأسرة

الأزمات المالية تهز استقرار الأسرة

فيما تؤكد الدكتورة آلاء الطائي، الأستاذ المشارك-جامعة الشارقة -كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية -قسم علم الاجتماع «في مجتمعات تتمتع بجودة حياة مرتفعة، يصبح الاستقرار المالي ضرورة ملحّة، وليس مجرد رفاهية، فهو عامل أساسي لتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، فكل منزل لديه قصته، وكل أسرة تواجه تحدّياتها الخاصة، سواء كان ذلك في تدبير المصاريف، أو التخطيط للمستقبل، أو حتى في تجنّب المشكلات التي قد تترتب على الضغوط المالية، فالمال هنا يصبح إمّا وسيلة لتوفير الطمأنينة، وإما لزرع القلق. وبينما يساعد الاستقرار المالي على بناء حياة هادئة، فإن الأزمات المالية قد تهز استقرار الأسرة، وتؤثر في العلاقات بين الأزواج، وبين الآباء والأبناء. إذن، كيف يمكن للأسرة أن تحافظ على دفء علاقاتها وسط ضغوط الحياة المالية؟

تشير د. الطائي «حين يكون المال وسيلة للطمأنينة:

  • يشعر الأفراد بالراحة: وتصبح لديهم القدرة على التفكير في المستقبل من دون خوف. فالأسرة التي لا تقلق بشأن دفع الفواتير، أو تأمين التعليم للأطفال، تكون أكثر قدرة على الاستمتاع بالحياة اليومية.
  • حياة أسرية أكثر استقراراً: الأسر التي تتمتع باستقرار مالي لديها مساحة أكبر للحوار والتفاهم، بعيداً عن التوتر الناتج عن الديون، أو الضغوط الاقتصادية.
  • الحرية في اتخاذ القرارات من دون ضغوط مالية: عندما يوجد استقرار مالي، يصبح اتخاذ القرارات الأسرية أكثر سلاسة، سواء كان ذلك في اختيار المدارس، أو التخطيط للسفر، أو حتى اتخاذ قرارات مهنية، من دون الشعور بأن الدخل هو العائق الأول.أما عندما يتحول المال إلى أزمة داخل الأسرة فيكون سبباً في:
  • زيادة معدل الخلافات الزوجية بسبب المصاريف والديون: تؤكد أغلب الدراسات أن كثيراً من خلافات الأزواج تبدأ من نقاش بسيط حول المصروفات، لكنها قد تتطور إلى مشاحنات مستمرة تجعل العلاقة متوترة. ويشعر أحد الطرفين بأنه يتحمل العبء الأكبر، بينما يشعر الطرف الآخر بأنه غير مقدّر.
  • تأثر الأطفال غير المباشر بالأزمات المالية: حتى في حال عدم معرفة الأطفال بالأزمات المالية التي تمر بها أسرتهم، فأنهم يكتشفون ذلك من خلال توتر الوالدين الذي يترك أثراً نفسياً كبيراً فيهم، ما يعيقهم حتى عن المشاركة في الأنشطة المدرسية، كما كانوا من قبل.
  • العزلة الاجتماعية الناجمة عن الضغوط المالية: يصل الحال في بعض الأسر إلى تجنب حضور، أو مشاركة المناسبات الاجتماعية لعدم قدرتها على مجاراة مستوى الإنفاق المطلوب، وبدلاً من قضاء وقت ممتع مع الأصدقاء والعائلة، تجد نفسها تنسحب تدريجياً، ما يزيد من شعورها بالعزلة.
مجلة كل الأسرة

حلول عملية للتوازن المالي المستدام

ولتجاوز المشكلات الاجتماعية الناجمة عن فقدان الاستقرار المالي، تضع أستاذ علم الاجتماع بين ايدينا مجموعة من الحلول العملية التي تساعد على تحقيق توازن مالي صحي ومستدام:

  • إعادة التفكير في مفهوم النجاح المالي: على أفراد الأسرة أن يعوا أن النجاح المالي لا يرتبط بالمظاهر الفاخرة، بل بالقدرة على العيش ضمن الإمكانات، والبحث عن السعادة في التفاصيل البسيطة.
  • إشراك الأسرة في القرارات المالية: تحويل التخطيط المالي إلى حوار مشترك بين أفراد العائلة، ما يعزز الشعور بالمسؤولية، ويساعد الأطفال على اكتساب مهارات التوفير، والإدارة المالية.
  • تنويع مصادر الدخل: يمكن للأسرة استكشاف مشاريع صغيرة، أو أعمال جانبية تعزز الدخل، مثل بيع منتجات منزلية، أو تقديم خدمات عبر الإنترنت، ما يخفف من الضغوط المالية، ويشجع التعاون الأسري.
  • تبنّي مفهوم «يوم بلا إنفاق» أسبوعياً: تخصيص يوم في الأسبوع من دون نفقات غير ضرورية، واستبدال الأنشطة المكلفة بأخرى مجانية، مثل الطهي الجماعي، أو التنزه، أو مشاهدة الأفلام في المنزل.
  • التوقف عن المقارنات الاجتماعية: تجنب الانسياق وراء الحياة المثالية التي تعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، والتركيز على احتياجات الأسرة الحقيقية لاتخاذ قرارات مالية أكثر حكمة.