خرج فيلم فرانسيس فورد كوبولا من مسابقة مهرجان «كان» بلا جائزة. قرار لجنة التحكيم لم يكن قاسياً فقط، بل متجنّياً. ففيلمه «ميغالوبوليس» كان أفضل أفلام المسابقة بلا منازع.
داهمت فرانسيس فورد كوبولا فكرة هذا الفيلم منذ وقت طويل، لكنه كان يحتاج إلى تمكين نفسه كاسم فني كبير ولامع. ما بين 1972 و1974 أنجز ذلك عبر فيلميه «العرّاب»، الأول والثاني، لكن الوقت لم يكن مناسباً. ربما لم تتكوّن معطيات الفيلم بوضوح آنذاك، أو ربما أدرك أن رؤيته ستصطدم بمعيقات مادية. في عام 2001، إثر الهجوم الإرهابي على نيويورك، عاد إلى الفكرة، لكنها كانت تحتاج إلى مزيد من الكتابة، والقليل من الانفعال. وبالتأكيد، لم يكن يملك في حسابه الخاص ما ينفقه لإنتاج الفيلم على الفيلم بنفسه.
انتظر كوبولا الوقت المناسب الذي هو الحالي. وقت تمرّ فيه الولايات المتحدة، والعالم، بسلسلة من المآزق التي تضع إسفينا ما بين عالم متخبّط ومغمور بالثورة المادية، وبين أخلاقيات الحياة والمبادئ التي باتت غير قادرة على الدفاع عن الإنسان، وحضاراته.
أدرك كوبولا، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، أنه قد لا يحقق فيلماً آخر بعد اليوم، وأن عليه- إذا ما أراد تحقيق هذا الفيلم فعلاً- أن يموّله من جيبه. المشروع كبير، ومعقد،وكثيف الجوانب البصرية، وفيه كم كبير من الممثلين، وأجواء، وتصاميم فنية وديكوراتية كبيرة. لم يبخل كوبولا على حلمه، بل وضع ثروة بلغت 120 مليون دولار، مدركاً إنه سينجز فيلماً من الصعب جذب الجمهور الكبير إليه. جمهور «العرّاب» (بجزأيه الأول والثاني)، وجمهور «المحادثة»، أو حتى «القيامة الآن» (الشركة الموزّعة هي ألمانية اسمها Constantine ولا يوجد للآن موزّع أمريكي).
لا يبدو أن ذلك يحرم كوبولا النوم. على العكس أنجز الرجل حلم حياته، وهو فعل أكثر بكثير من أحلام عدة تنتابنا لا نستطيع تحقيقها. جمع للفيلم أسماء رنانة. آدم درايفر في دور سيزار، ولورنس فيشبورن، ودستين هوفمن، وجونن فويت، وشايا لابوف، إلى جانب أسماء أخرى غير معروفة على نطاق واسع: نتالي إيمانويل، وأوبري بلازا، وجيان كارو إسبوزيتو، وعشرات آخرين.
«ميغالوبوليس».. سلسلة متواصلة من المفاجآت
مطلوب من هذه الشخصيات الماثلة الترميز للشخصيات التي عاشت في زمن قياصرة روما (كاليغولا، سيزار، سيسيرو، كراسوس، إلخ...) وهي تفعل ذلك، لكن ليس بلباس تاريخي، ولا تقع أحداث الفيلم أساساً في حقب تاريخية. إنه عن عالم معاصر يدمج اليوم بالمستقبل، لكنه يتحدّث عن الآفة التي لا تعرف تميّز العصور: السُلطة والجاه حين لا يستند إلى نفع عام. في نظر كوبولا، ما حدث للإمبراطورية الرومانية هو التنافس على المصالح الشخصية، واستفحال التنافس عليها. ما يوازيه، في منظور المخرج، هو وجود هذا التنافس، وذلك الاستفحال في الزمن الحاضر في أمريكا.
آدم درايفر
آدم دراير هو مصمم معماري ذو رؤية مستقبلية لتحويل المدينة التي يعيش فيها إلى صرح شامخ بمادة اكتشفها (لا يتوقف الفيلم عند تفاصيلها)، ستنقل الحاضر إلى المستقبل. يقاومه في هذا المشروع محافظ المدينة (إسبوزيتو)، وهناك من يعارض المدينة الجديدة انطلاقاً من أنه يريد إنشاء كازينو كبير (هذا تماثل بين فنان وتاجر كحال المخرج وهوليوود).
سيزار يحب جوليا (إيمانويل) ابنة المحافظ الذي يتودّد حيناً، ويعارض معظم الأحيان خصوصاً في مسألة زواج ابنته من سيزار. هناك مشكلة أخرى في حياة سيزار، وهي أن عشيقته واو (أوبري بلازا)، تريده لنفسها، وهي تملك زمام أمره من حيث إن والدها (جون فويت) الذي هو أثرى أثرياء المدينة، يستطيع وقف تمويله وتجميد حساباته المصرفية.
في ساعتين و14 دقيقة يستعرض «ميغالوبوليس» مشاهده في سلسلة متواصلة من المفاجآت البصرية. هذا عالم شيّده كوبولا كما كان أورسن وَلز، وفدريكو فيلليني، وكوبولا نفسه، شيدوه من قبل. لا شيء سهل في النظرة الأولى، وكل شيء ممكن تنفيذه مغلّفاً بجاذبية الفكرة، وما تفصح عنه من مضمون، وبالأسلوب الذي ينتمي إلى مخيلة لا تفتقر إلى القدرة على الإدهاش.
بما أن هذه القدرة تعتمد على جديّة المضمون وأبعاده فإنها ليست خاوية مطلقاً. ربما كثافة المعروض تؤسس لمشكلة تلقّي. الفيلم بالتأكيد نخبوي، وليس جماهيرياً، لكن إلى ذلك، وحتى على المستوى الأول، هناك الكثير جداً من المعروض المتوّج، والمغلّف بالكثير جداً من المشاهد التي تستخدم كل تفصيلة صغيرة منها لتؤلّف كياناً كبيراً، غريباً وجديداً، حتى الجنوح.
كوبولا مع فريق عمل الفيلم في مهرجان «كان»
يحشد كوبولا كل ما في وسعه لتنفيذ رؤية تتبلور على أكثر من صعيد. من الكتابة إلى آخر لقطة من الفيلم، هذا عمل مجبول بخيال تزوّجت واندمجت من مهارة حرفية نافذة. نصف الساعة الأخيرة يعاني ثقل ما سبقه، لكن الفيلم لا يقع، وما ينقذه هو المستوى المتواصل من دون هوان، والمملوء بالمفاجآت البصرية، وكلها غير مجانية، ولا تهدف لكي تتبوأ عناوين لافتة. الفيلم بأسره هو صرخة زيّنها المخرج بخيال رحب، وواسع. المفارقة هي أنه إذ يعرض واقعاً متشائماً لا يعمد إلى تظليله ومنحه صورة داكنة للتأكيد عليه، بل ينجز فيلما لافتاً في مساحاته وفضاءاته البيضاء.
ينقسم المشاهدون إلى معجبين متيّمين (وهذا الناقد أحدهم)، وإلى نابذين ومنتقدين، وكل من الفريقين له وجهة نظر تؤيده، ما يجعل كلاهما صحيحاً على صعيد مبدئي. وبينما ضنّت عليه لجنة التحكيم بجائزة من وزنه، يضع المخرج الآن ثقله على الجانب التسويقي. سيبقى التحدي قائماً لكون الفيلم يقع بين اسم مخرج كبير لا يمكن إهمال قيمته، وبين فيلم لا يملك حكاية واضحة للجميع، بل للنخبة من المشاهدين فقط.
اقرأ أيضاً: قراءة في نتائج مهرجان «كان».. تيمات متشابهة طغت على جوائز «كان»