14 مايو 2024

إنعام كجه جي تكتب: الحماقة هي العلّة

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

إنعام كجه جي تكتب: الحماقة هي العلّة

لا أذكر متى كانت آخر تظاهرة سرتُ فيها. وبصراحة، لست من النوع الذي يحبّذ المشي في التظاهرات، ورفع اللافتات، والصراخ بالشعارات السياسية. أنا صحفية مهنتي الكلمة المكتوبة. أعبّر من خلالها عن أفكاري، ومطالب الفئات التي أنتمي إليها.

لكنني أذكر التظاهرة الأولى التي مشيت فيها في شارع الرشيد في بغداد. والحقيقة أنهم ساقوني إليها مع غيري، من الموظفين والموظفات، في الجريدة التي كنا نعمل فيها. كان ذلك أواسط سبعينات القرن الماضي، وأنا عروس جديدة. وهدف التظاهرة الاحتجاج على وجود قوات الردع السورية في لبنان. فمن المعروف أن حزب البعث يحكم في العراق وسوريا لكن عداوة استحكمت بين البلدين الشقيقين الجارين.

وقفت أمامنا رفيقة حزبية تقود مجموعتنا، وهي التي كانت تطلق الهتاف وعلينا أن نردّده وراءها. هي البوق الكبير، ونحن الأبواق الصغيرة. وما زلت، بعد أكثر من أربعين عاماً، أضحك، وأنا أستعيد نص الهتاف. كان الشعار متهافتاً بحيث إنني أبَيت على لساني أن يردّده. لكن الويل لمن يمشي، ولا يصفّق ويهتف. كنت أحرّك فمي بكلمات غير تلك الكلمات، وأصفّق بحماسة، وأنا أتخيّل نفسي في حفل لكوكب الشرق.

ثم انتقلت لاستكمال دراستي في باريس. وضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي. ومن دون سابق تخطيط تجمع الطلبة العراقيون، وعدد من زملائهم العرب، في أول جادة «الشانزليزيه» للاحتجاج على تلك الجريمة السافرة. ويومها ذهبت إلى التظاهرة عن اقتناع تام، ولم يسُقني إليها أحد.

بعد ذلك قاطعت التظاهرات. كنت مؤمنة بأن المطالب السياسية لا تتحقق سوى بطريقتين: المفاوضات، وهي الأنسب، أو القوة، أي الحرب، إذا كنا قادرين عليها بالفعل. سارت تظاهرات عربية كثيرة في باريس، ولم أشارك فيها. إلى كان يوم جرّتني فيه ابنتي ذات السنوات العشر لكي أمشي معها في تظاهرة ضخمة ضد العنصرية.

كبرت ابنتي وصارت أمّاً، وصرت جدّة. ثم جاءت الحرب في غزة لتخلخل قناعاتي السابقة. رأيت الأطفال يتمزقون دونما ذنب، وتخيّلت حفيدي مشرّداً جائعاً شاهداً على مقتل أهله. كان لابد لقلبي وعقلي الاستجابة لنداء التظاهرة التي خرجت في الحي اللاتيني للمطالبة بوقف القصف الهمجي على الفلسطينيين العزّل. لكن ما سمعته في تلك التظاهرة أعاد إليّ رشدي.

كانت هناك هتافات عنصرية ضد اليهود، لا ضد إسرائيل والصهيونية. وشعارات تهدّد بسيادة دين على دين، وتدمير فرنسا البيضاء. وكنت أنظر في عيون الشبان الذين يصرخون ويرفعون قبضاتهم غاضبين، وأحاول أن أشرح لهم أن هتافاتهم تسيء إلى فلسطين، وإلى كل العرب، وكل المسلمين. من يسمع صوتي وسط ذلك الهدير الأهوج؟

انسحبت بهدوء، وسرت عائدة إلى بيتي. أجلس أمام حاسوبي لأكتب لكم أن الجهل والحماقة علّة الكثير منّا.

 

مقالات ذات صلة