بصرف النظر عن هوية الفيلم، أيّ فيلم، في أيّ زمان أو مكان، فإن نهايته هي اختيار من بين اثنين: نهاية سعيدة، أو نهاية حزينة.
«قتلة فلاور مون»
معظم الأفلام التي عُرضت في العام الماضي (كما في أيّ عام سبقه) انتهت نهايات سعيدة. للأسف، حتى فيلم مارتن سكورسيزي الأخير «قتلة فلاور مون»، محا ما سبق بفصل كاريكاتيري للمخرج نفسه يتولى سرد الحكاية وراء مذياع راديو في الثلاثينات. من دون هذا المشهد كان الفيلم سيتوقف عند قيام الشرطة الفيدرالية بالقبض على المجرمَين روبرت دينيرو، وليوناردو ديكابيريو، ومحاكمتهما.
الواضح أن أغلبية الجمهور لا تحب النهايات الحزينة، رغم أن لخيبة الأمل في نهاية فيلم ما، أثراً أكبر من النهاية السعيدة.
خيبة الأمل لشخصية رئيسية سعت لتحقيق ما تريد لنفسها، أو لسواها، وأخفقت، تبقى عالقة في البال أكثر من تلك النهايات التي ينجح فيها أبطال الفيلم في إنجاز نواياهم، والانطلاق بما حققوه من نجاح صوب مستقبل أفضل.
«أوشن 8»
لو أخذنا سلسلة «أوشن» التي بدأت بـ«أوشن 8» التي توالت منذ نحو عشرين سنة بأجزاء مثل «أوشن 11» و«أوشن 12» و«13» و«14» إلخ.. فإن نجاح العصابات المتوالية في كل من هذه الأفلام كان مرصوداً منذ البداية. وتم تلميع صورة الشخصيات التي ستقوم بالسرقات المنظّمة، ونفض الغبار عنها، وتصفيف شعرها، وتصميم مظهرها، بحيث لا يمكن أن تنتهي على غير النجاح الذي يتوقعه المشاهد لها. وفي نهاية كل جزء منها تنتشر الابتسامات من أبطالها (براد بت، جورج كلوني، مات دامون، دون شيدل، كايسي أفلك إلخ..)، متحدية المنطق، ومعنية بمواصلة الخداع، والحيلة، ومهارة سرقة المؤسسات الكبرى في الجزء القادم.
مع هذه العناية القصوى لتلميع تلك الشخصيات، فإن النهاية لا تستطيع أن تكون إلا على النسق ذاته. لكن في الواقع لا يستطيع كثير من المشاهدين تحديد المشهد الأخير لأي من هذه الأفلام، أو سواها، لأنها معنية بتوزيع الابتسامة على شفاه ممثليها ومشاهديها، على حدّ سواء.
«الغابة الأسفلتية»
أفلام اللصوص.. أموال تتطاير كالأحلام
النهايات الحزينة للصوص تبقى أعمق، خصوصاً إذا ما ارتبطت بتهاوي آمال هي - جدلياً على الأقل- محقة.
في فيلم «القتل» The Killing لستانلي كوبريك (1956) يسعى جوني كلاي (سترلينغ هايدن)، لعملية سرقة أخيرة، بالاشتراك مع مجموعة من غير المحترفين، كان لابد من الاعتماد عليهم، لأن بعضهم من داخل ميدان سباق الخيول المنوي سرقة غلّته. هناك الشرطي الذي يطمح إلى تجاوز موارده المحدودة (تد دي كورسيا)، والموظف الذي سيفتح الباب لدخول العصابة، والمتزوّج من امرأة ستعلم عشيقها بالخطة (أليشا كوك). وهناك الموظف الآخر الذي لا سبيل للعناية بزوجته المريضة سوى الاشتراك في هذه السرقة (جو سوير)، لجانب عدد آخر من الذين لا شيء لديهم يخسرونه في حياة مملوءة بالصعاب.
بعد أحداث عدة تبلغ ذروتها بمداهمة عصابة أخرى للعصابة التي قامت بالسرقة، وتصفية كل منها للأخرى، يصل كلاي متأخراً، ويدرك ما حدث. يشتري حقيبة، وعلى سرعته يختار ما تسنى له من بين الحقائب، ويحشوها بالمال. يصل مع صديقته فاي (كولين غراي)، إلى المطار ليستقلا طائرة ويهربان بها. الموظف يرفض وضع الحقيبة الكبيرة في الطائرة، ويصرّ على شحنها. يودعها كلاي بنظرات متألمة.
آنذاك المطارات كانت مختلفة، وها هم الركاب على المدرج ذاته. سيدة من الأثرياء تحمل كلبها الذي يقفز من بين يديها ما يضطر المركبة التي تحمل الحقائب لتفادي الاصطدام به. هذا يؤدي إلى سقوط بعض الحقائب من فوقها، وبينها حقيبة كلاي التي تُفتح عنوة وتتطاير معها الأموال المسروقة بفعل مراوح طائرة قريبة.
ها هي الأحلام تبخرت، والشرطة وصلت لتلقي القبض على كلاي المهزوم.
الشعور بالمرارة لكون السارق مسكين الوضع يحاول الارتقاء مرة واحدة، وأخيرة، ويفشل في النهاية، نجده في فيلم ممتاز آخر حيث قام سترلينغ هايدن أيضاً، ببطولته قبل خمس سنوات فقط، من «القتل»، الفيلم هو «الغابة الأسفلتية» لجون هيوستون، وسترلينغ يلعب هنا دور مساعد رئيس العصابة التي تقرر القيام بسرقة محل مجوهرات، بعدما اتفقت مع محام لديه علاقات شائنة على بيعها له. المحامي لا يملك ما يدفعه للاحتفاظ بالمجوهرات، ويستعين بقاتل محترف ليجبر رئيس العصابة (سام جافي)، ومساعده ديكس (هايدن) على تسليم المسروقات. وخلال المواجهة يُصاب المساعد برصاصة. رئيس العصابة يقع في يد الشرطة. ديكس يهرب مع صديقته دول (جين هاغن)، بسيارتها خارج المدينة.
كان ينوي أن يشتري بحصته من الغنيمة مزرعة جياد كتلك التي تربّى فيها عندما كان صبياً. وفي الطريق الريفي يجد مثل تلك المزرعة. يوقف السيارة ويخرج منها إلى حيث الجياد، ويسقط في وسطها ميتاً.
«مدينة سمينة»
أفلام بلا مواعظ
لجون هيوستون نهاية حزينة أخرى في فيلم «مدينة سمينة». هذا الفيلم لا علاقة له بالسرقات لكونه يدور حول ملاكم فاته زمنه (ستايسي كيتش)، وآخر شاب مقبل على الرياضة والحياة (جف بردجز). يرى الأول في الثاني نفسه عندما كان شاباً، ويحاول توجيه الشاب وتدريبه. لكن الشاب مشغول بأشياء الحياة الأخرى. كلاهما يخفق في تحقيق حلمه. لا الشاب تحوّل إلى ملاكم محترف، ولا المدرّب استطاع استعادة ماضيه بحاضر جديد.
المشهد الختامي للفيلم لهما، وهما جالسان على منضدة في مقهى يتابعان رجلاً عجوزاً يعمل، متسائلين عما إذا كانت لديه هو الآخر أحلام لم تتحقق لينتهي نادلاً.
بطريقة ما يوصلنا كل ذلك (وهناك عشرات النماذج التي لا يتسع لها المجال)، إلى فيلم المخرج الراحل محمد خان «نص أرنب».
بداية، العديد من أفلام محمد خان تحفل بنهايات غير سعيدة، لكن في مجال السرقات لديه هذا الفيلم الذي حققه سنة 1982 حول حقيبة محشوة بالمال تتم سرقتها، وفي أعقابها عدد من الشخصيات، بينها محمود عبدالعزيز، ويحيى الفخراي، وتوفيق الدقن، ومدحت صالح. وبعد مطاردات وملاحقات وجرائم قتل، بطل الفيلم يوسف (عبدالعزيز)، يرمي الحقيبة في ماء البحر (تدور الأحداث في الإسكندرية)، إذ قرر أنه لا يريد أن يصبح لصاً مهما كانت المغريات.
ليس من بين ما سبق من أفلام ما هو وعظي، ولا الغاية تحقيق أعمال أخلاقية تناسب المحافظين. على العكس، تتراءى تلك النهايات كمصير محتوم لأحلام مُجهضة لا يمكن خلالها، وقد وصل كل فيلم إلى نهايته، سوى ترك الأثر ذاته في النفس، من باب التعاطف مع تلك الشخصيات التي لم يكن أمامها سوى الجريمة في مواجهة عالم صلب لا يمكن اختراقه بالوسائل المتاحة لها.