شهد العام المنصرم، بعيداً عن أعين الرأي العام، تنافساً حاداً بين مهرجانات الصف الأول الثلاثة (برلين، كان، فينيسيا)، كما بين باقي المهرجانات التي تليها. كيف انتهت هذه المنافسة، ولمصلحة من؟
في عام 2023 بلغت المنافسة أشدّها بين مهرجانات السينما، وعلى أكثر من جبهة، وصعيد.
ما تتنافس عليه المهرجانات أولاً هو الإنتاجات التي يمكن لها تحقيق ثلاثة أهداف: أن تثري المهرجان بحضور إعلامي مواكب (مخرجين وممثلين مشهورين)، وأن تثير اهتمامات نقدية لأنها جزء من الحملة الإعلامية التي تستفيد المهرجانات منها، وأن تستطيع أن تعيش لما بعد انتهاء المهرجانات، فتدخل محافل المناسبات الدولية، كالأوسكار والبافتا والغولدن غلوب. هذا الشق الأخير بات تفعيلاً بالغ الأهمية من بين تلك الأهداف، فوصول فيلم ما إلى منافسة أفلام أخرى في سباق الأفلام الأجنبية يعني أنه استفاد من عروضه في مهرجان يمكن الاعتماد عليه لإيصال الفيلم المشترك إلى نجاحات أعلى، ما يدفع، بالتالي، منتجي الأفلام ومخرجيها لاعتماد هذا المهرجان، أو ذاك، لأنه تذكرة رابحة لوصوله إلى سدّة تلك الجوائز السنوية.
لكن نسبة الجيد من الأفلام التي تستقطبها المهرجانات العالمية ما عادت غالبة، كما كان الوضع حتى سنوات قريبة ماضية. رحيل بعض كبار المخرجين (غودار، تروفو، ڤايدا، برتولوتشي، روزي إلخ...)، وانسحاب آخرين من العمل لسنوات (فرنسيس فورد كوبولا، جيم جارموش، كاثرين بيغلو، ديڤيد لينش، ميشيل هنيك، فولكر شلندورف وسواهم)، لا يمكن تعويضه نوعياً، وعلى المستوى ذاته.
أفلام متوسطة وأسواق سينمائية
لذلك رأينا المزيد من الأفلام ذات المستوى المتوسط تحقق الخطوة صوب العروض الرئيسية في مهرجانات برلين وكان وفينيسيا، ما يؤثر في مستويات الأفلام المتسابقة في الأساس.
التوجه العام صوب خلق أسواق سينمائية في المهرجانات الأولى كان بدأ قبل عقود، ثمّ توسع ليشمل عدداً أكبر من المهرجانات الدولية الأخرى (بما في ذلك مهرجان «البحر الأحمر»). كذلك الحال بالنسبة إلى قيام المهرجانات بدعم الإنتاجات الجديدة عبر صناديق تمويلية ومسابقات هامشية.
الجانبان مهمّان أيضاً، كوسيلة جذب، كما كان الحال في هذا العام، عندما ارتفع عدد الصفقات المبرمة في «كان»، و«البحر الأحمر»، و«صندانس» الأمريكي عن معدّلاته السابقة.
بعض المهرجانات، مثل فينيسيا، لا تودّ الإبحار بعيداً فوق هذه المساحة التي تتطلب ميزانيات إضافية، وفهماً للسوق الأوروبي، من حيث قدرته على استيعاب المزيد من الأسواق. لذلك شهد في العام الماضي، استمرار ريادة مهرجان «كان» للمهرجانات الدولية على هذا الصعيد. السوق الأكبر الثاني في أوروبا هو ذلك الذي يقيمه، بنجاح، مهرجان برلين السينمائي.
هناك أكثر من مستوى واحد من العالمية، أهمها اثنان: الأول: أن يجلب المهرجان الأفلام والضيوف، ويؤسس وجوده كأفضل ما يمكن له أن يكون في منطقته الجغرافية. المستوى الثاني، وهو الأصعب والأعلى: أن يختاره المنتجون الغربيون لعروض أفلامهم قبل عرضها في أي مهرجان عالمي آخر. وسبب صعوبة تحقيق هذا المستوى يعود إلى عوامل خارج إرادة المهرجان العربي (وفي ذلك يمكن ضم عشرات المهرجانات الكبيرة حول العالم)، من بينها أن المنتج عليه أن يرى ما الذي سيعود عليه من جراء اختيار فيلمه كعرض أول («برميير»)، في أي مهرجان.
لهذا امتلكت ثلاثة مهرجانات عالمية الصدارة، وزمام الموقف، وهي «كان» و«فينيسيا» و«برلين». بعدها هناك روتردام ولوكارنو، وكارلوفي فاري، وصندانس، وتورنتو، وسان سابستيان.
المهرجانات السينمائية الثلاثة الكبار
في عام 2023 زادت حدّة المنافسة بين «فينيسيا» و«كان»، وكاد مهرجان برلين يخرج من الاهتمامات العالمية الأولى بسبب إدارته التي لم تستطع أن تجلب ما يجعل من الدورة امتداداً طبيعياً لدوراته الناجحة السابقة. وكان تم الإعلان عن تغيير إداري جديد تتسلم تريسيا تاتل، إدارته، بدءاً من نهاية الدورة الرابعة والسبعين في فبراير المقبل. وتاتل أمريكية عملت سابقاً ضمن فريق إدارة جوائز البافتا. ولسبب غير معلوم تماماً، ما زال المهرجان الألماني يبحث عن مدير ألماني للمهمّة. فالإدارة السابقة مباشرة ومن عام 2019 تسلّمها كل من الهولندية مارييت ريزنبيك، والإيطالي كارلو شاتريان. وفي عام 2020 بدأ انتشار الوباء، وفي دورة 2021 تم عرض أفلامه على النت، ثم عاد في العام الماضي، بكتلة من المشاكل، من بينها افتقاده أفلاماً من المستوى ذاته المتاحة للمهرجانين الآخرين، فينيسيا وكان.
لقطة من فيلم «تشريح سقوط»
«كان» (السادس والسبعون) انطلق تحت قيادة المخرج السويدي روبن أوستلند كرئيس لجنة التحكيم التي منحت جائزتها الأولى لفيلم جوستين ترايت «تشريح سقوط»، وحفل بعدد كبير من الأفلام الجيدة في المسابقة وخارجها، من بينها «أوراق شجر متسابقة»، لآكي كيورسماكي (فنلندا)، و«أسترويد سيتي» لوس أندرسن (الولايات المتحدة)، و«أيام تامّة» لفيم فندرز (ألماني/ ياباني)، و«السنديان القديم» لكن لوتش (بريطانيا).
لقطة من فيلم «أشياء بائسة»
منافسه الأول، فينيسيا، احتفل بدورته الثمانين، وترأس دورتها مخرج آخر هو الأمريكي داميان شازال، الذي منح الجائزة الأولى لفيلم أوروبي آخر هو «أشياء بائسة»، لليوناني يورغوس لانتيموس.
كلا هذين الفيلمين يقود الهجوم الأوروبي على جوائز الغولدن غلوب والأوسكار في العام الجديد. والفيلم الذي سيفوز بذهبية إحدى هاتين المناسبتين كأفضل فيلم عالمي سيعزز من مكانة المهرجان الذي عرض الفيلم الفائز فيه.
مهرجان تورنتو السينمائي غيّر شكله
في أمريكا الشمالية، لم يشهد العام الذي ودعناه تغييرات حاسمة، إلا من حيث نوع من إعادة التأهيل بعد الفترة الحرجة التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية، تبعاً لانتشار وباء كورونا. تحديداً، كل من مهرجاني تورنتو الكندي، وصندانس الأمريكي استعادا في 2023 الحضور الذي تأثر خلال العامين الماضيين.
صندانس لا يزال الجاذب الأول للأفلام المستقلة الأمريكية والعالمية، عبر أقسام للروائي والتسجيلي، وبين الأفلام الطويلة والقصيرة، وتلك الآتية من الولايات المتحدة، والأخرى القادمة من دون العالم.
كل نوع (تسجيلي، روائي) فيه مسابقتان (محلية وعالمية)، لجانب جوائز عن أقسام أخرى.
على الجبهة الكندية استعاد تورنتو وضعه المستقل تماماً عن باقي المهرجانات العالمية: هو مرتاح من تفعيل مسابقات، ومستغن عن لجان التحكيم. على ذلك، هو مهرجان متألق بحضور أمريكي وعالمي كثيف، لكونه في الموقع الجغرافي والزمني المناسب لدخول السوق الأمريكية من خلال صفقات تُعقد في رحابه، حتى من دون وجود سوق رسمية.
اقرأ أيضاً:
- ملاحظتان بعد ختام مهرجان «كان» 2023.. تقدم عربي وانحياز لنجوم الأمس
- مهرجان فينيسيا السينمائي.. شاب في الثمانين