المتجول في مدينة الخليل القديمة، بين أزقتها وحواريها، يلحظ معملاً للزجاج قرب الحرم الإبراهيمي الشريف، تعتليه لافتة كتب عليها «مصنع أرض كنعان للزجاج اليدوي والتقليدي»، يعمل فيه رجل يسعى جاهداً لصناعة أوانٍ وكؤوس، ومزهريات زجاجية مزخرفة وملونة، ومتقنة بشكل لافت للعيان.
يعمل الحاج يعقوب شاهين النتشة، «أبو وحيد»، 65 عاماً، في صناعة الزجاج منذ 56 عاماً، ويستعرض مهاراته في صناعة الزجاج والتي تعلّمها عندما كان طفلاّ في التاسعة من عمره، أمام المتسوّقين والزائرين لمصنعه المقام داخل بناء أثري، بُني منذ مئات السنين، يعلّق في سقفه وجدرانه مئات القطع الزجاجية من صناعته بيده. ويقدم «أبو وحيد» فنوناً ورثها عن أبيه الذي تعلّمها من والده أيضاً، بشكل متواصل منذ أربعمئة عام مضت، نقل خلالها الآباء هذه الحرفة لأبنائهم.
يقول «أبو وحيد» إنه يستمع لأحاديث الزوار من طالبات الجامعات، والسياح القادمين من مختلف أرجاء العالم، وعن رأيهم في عمله، يبين «يعتقد البعض أنني فنان، فيما يقول آخرون إنني خارق وأرقى للساحر، ربما لأنني أشكّل القطعة في معظم الأحيان كأنها شيء نابض، وأتواصل مع ما أقوم بصناعته بشكل دائم».
وتشتهر مدينة الخليل، الواقعة جنوب الضفة الغربية، وهي المدينة الأكبر فيها، بصناعاتها الزجاجية والجلدية والخزفية، لكن الكثير من الحرفيين نقلوا عملهم من داخل البلدة القديمة إلى خارجها لتجنّب الإجراءات الإسرائيلية التي تعيق عملهم.
«مصنع أرض كنعان».. الوحيد المتبقي
ومن أرفف محل «أبو وحيد»، وجوانبه، تتدلى مئات الزخارف، والمصابيح، والمزهريات، وغيرها من الصناعات الزجاجية بأشكال مختلفة، وتمتزج ألوانها اللافتة للنظر، بشكل يخلق لوحة فنية جمالية، وسط أزقة قديمة داخل مدينة تعتبر من أقدم مدن العالم.
ويقول «أبو وحيد» إنه عندما بدأ بالعمل قبل نصف قرن ونيف، في الخليل القديمة، كان إلى جانبه 17 مصنعاً متبقياً للزجاج من أصل العشرات من المصانع كانت في القرن السابق، واليوم هو المحل الوحيد الخاص بصناعة الزجاج يدوياً المتبقي في الخليل، وفي فلسطين.
ويضيف أنه عبر هذا المعمل يحاول إعادة التراث، لذا اطلق على مصنعه اسم «أرض كنعان»، حيث يحضر لزيارة المصنع زوار من مختلف أرجاء فلسطين، وخارجها، ممن يدركون قيمة الصناعة اليدوية للزجاج، ويقومون بشراء المنتجات.
ويبيع «أبو وحيد» منتجاته بدءاً من دولار ونصف الدولار، حتى 30 دولاراً، حسب نوع القطعة، والجهد اليدوي المبذول في صناعتها وكلفة المواد الخام الخاصة التي تدخل في إنتاجها.
ويعتمد «أبو وحيد» في بيع منتجاته على التصدير لخارج فلسطين، أو البيع للسياح القادمين إلى داخل المدينة، ويقوم بإرسال جزء من صناعته إلى مدينة القدس التي تبعد قرابة 35 كيلومتراً عن مدينة الخليل شمالاً، ويتحدث عن تضرر تجارته، بشكل كبير، خلال جائحة «كورونا»، وما بعدها، بسبب انخفاض السياحة إلى فلسطين.
ويقول «أبو وحيد» إنه مصرّ على مواصلة التمسك بهذا الموروث الثقافي لصناعة الزجاج اليدوي، الذي ورثه عن آبائه وأجداده، ويرغب في تعليم واحد على الأقل من أبنائه الاثني عشر هذه الصنعة، ليقوم بالعمل معه، ثم العمل مكانه في حال عدم قدرته على العمل لتقدّمه في السّن.
إعادة تدوير الزجاج في «مصنع أرض كنعان»
ويتحدث «أبو وحيد» عن عمله اليومي، مشيراً إلى أنه يصل المصنع باكراً، ويقوم بإشعال الفرن الخاص به، وبإحضار المواد الخام القادمة من الزجاج المحطّم، حيث يجري تحطيم الزجاج، وصهره بدرجة حرارة تتجاوز 400 مئوية.
ويضيف أنه يقوم برش البودرة الخاصة بالألوان على الزجاج المكسّر لدمج اللون مع الزجاج أثناء الصهر ويصبح بذلك الزجاج ملوناً، بعد أن ينصهر مع الزجاج على درجات الحرارة العالية.
ويوضح أنه يقوم بإخراج الزجاج المنصهر، ويبدأ بتشكيله بالنفخ والحت واللف داخل أنبوب حديدي، وباستخدام أدوات خاصة، وبعد أن ينتهي من صناعة القطعة يدخلها في فرن آخر لتبريد الزجاج بشكل تدريجي، بحيث لا يتضرر.
ويقول «أبو وحيد» إنه يحترف مهنة نفخ الزجاج وتشكيله منذ أن كان في العاشرة من عمره، ويفخر بأن كل ما في محله الصغير هو من إبداع خياله، وأنه تربطه علاقة حب مع مصنوعاته الزجاجية.
ويؤكد أنه يُطلب منه في بعض الأحيان تسليم مئات القطع الزجاجية بشكل معين، فيقوم بتصنيعها يدوياً ولا يمكن لأحد أن يلاحظ أيّ فرق بين قطعة وأخرى، فيمكنه أن يصنعها جميعاً بشكل متماثل تماماً.
ويتحدث «أبو وحيد» عن مصاعب في هذه المهنة التي تتمثل في الجروح بالزجاج، والحروق من النيران المشتعلة التي تصهر الزجاج، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة حلمه ليصبح أفضل صانع زجاج في العالم، كما يقول.
«أبو وحيد» يمثل فلسطين في مختلف بقاع الأرض
وتمكن «أبو وحيد»، الذي بقي بين عائلته يعمل بالزجاج حيث اشتهرت عائلته، في القرن الماضي، بالعمل في هذه الصناعة، من أن يصبح أشهر صانع للزجاج في فلسطين، بل وواحداً من أقدم صناع الزجاج في العالم، وشهرته في فلسطين جعلته يمثلها في الخارج 17 مرة، حيث شارك في مهرجان دبي للتسوق، وفرنسا التي اصطحب معه فرنه إليها، وقام بصناعة الزجاج أمام العامة، وشاهده مئات آلاف الزوار الفرنسيين للمعرض الذي شارك فيه.
ويوضح «أبو وحيد» أن «جلّ الموديلات والأشكال الموجودة في فلسطين هي من تصميمي أنا، وأنا مثلت فلسطين 17 مرة في فرنسا والبرازيل إيطاليا وميلانو ودبي، وكذلك في العديد من الدول، وعملت فرناً اصطحبته معي، واعمل به في المعارض، وقد اطّلع على عملي الآلاف في باريس مثلاً».
ويتمنى يعقوب أن يتعلم كثير من الشبان هذه المهنة، خصوصاً أنها من المهن المنقرضة في الخليل، والعالم، بعد دخول الصناعات الآلية في مجال الزجاج، والتي أسهمت كثيراً في تراجع صناعات الزجاج التقليدية.
إعداد: بلال غيث كسواني
إقرأ أيضاً: إيمان حمدية... فلسطينية تعيد إحياء تراث القدس وزخارفها بشكل عصري