تحمل «جيل إلفيرت»، ذكرياتها في جعبة الماضي، وتمضي لتعيش حياتها بشكل هادئ، فلا أحد يمكن أن ينغّص استقرارها في بيتها الجميل في الشارقة، وهي تعيش مع حيواناتها الأليفة: الكلب تووي (TUIو6 قطط)، وأرنبين، وعدد من الطيور، كما تهتم بحديقتها التي تزرعها بالعديد من النباتات والأعشاب.
فلسفتها في الحياة قائمة على التقبّل، تقبّل مسيرة حياة تفرّعت بين دول عدّة، لتختار الإمارات العربية المتحدة موطناً نهائياً تتمنى أن تُدفن فيه، مع أمل بالحصول على الجنسية الإماراتية، بعد أن عاشت نحو 40 عاماً على أرض هذا البلد، وبعد أن أشهرت إسلامها، وأطلقت على نفسها اسم «بهيّة».
«جيل» في شبابها
هي جيل إلفيرت (Gilles Elvert )_البريطانية، التي تستقبلك بعبارة «أهلاً وسهلاً»، وتردّدها مراراً، دلالة على حسن الضيافة، ومعايشتها للعادات العربية الأصيلة.
قدمت إلى الإمارات في الرابع من أكتوبر عام 1984، وخاضت غمار حياة قادتها إلى اتخاذ القرار بالبقاء في الدولة، واعتناق الإسلام، حيث تقول «عندما أموت، أريد أن أدفن هنا، حيث إنني أشعر بالانتماء إلى هذا المكان، ولا أحتاج إلى العودة إلى بريطانيا. لقد عشت هنا لأرضي نفسي، وأبقى مع حيواناتي التي أعتبرها عائلتي، وحتى أنني أنقذ بعضها من الشوارع، حيث يرميها الناس غير آبهين بأنهم يرمون روحاً، وبأن هذا السلوك حرام».
«جيل إلفيرت».. من لبنان إلى أمريكا
فما حكاية جيل التي تحولّت إلى «بهيّة»، وكيف وصلت إلى الإمارات منذ 40 عاماً؟
لكل فصل من فصول الحكاية حكاية، ولكل حكاية مسار من الألم، والفرح، والتقبّل لما عاشته من دون ندم.
بدأت حكايتها من لبنان، حيث أحبّت هذا البلد حباً عميقاً وتوطّدت علاقتها بتلك الأرض بعد أن أحبّت لبنانياً، وارتبطت معه بقصة حب كبيرة، إلا أن الحرب اللبنانية نسفت أحلامها بعد أن قتل حبيبها في انفجار خلال تلك الأحداث الدامية.
بعد أن أقفلت حقيبتها، وعادت محمّلة بذكريات الأشرفية، والجبل، وبعلبك، وفيروز، على أدراج بعلبك، ومشاهد الثلج وبياض اللحظة، من ملامح لبنان الجميل، لم ترغب في العودة، إلى لبنان-السواد بعد الحرب «كنت أريد الاحتفاظ بصورة لبنان الجميل ما قبل الحرب الشرسة، في عام 1979، غادرت، ولم أعد أرغب في العودة بتاتاً، لأني أرغب أن أحتفظ بالصورة الجميلة التي استقرت في ذاكرتي عن لبنان».
غادرت إلى أمريكا، ولكنها ما لبثت أن تعرّضت لمشكلة صحية كبيرة أُلغي إثرها تأمينها الصحي لعلاج السرطان.
تروي جيل «كانت الفاتورة آنذاك، في الثمانينات، تعادل الـ92 ألف دولار أمريكي، عدا عن كوني لم أشعر بالسعادة هناك، ولكني عقدت صداقات متينة لم تزل راسخة لليوم، والتحقت بدورات لتعلم اللغة العربية في جامعة رايس في هيوستن بولاية تكساس، ثم عدت إلى بريطانيا لستة أشهر، ومن ثم قدمت إلى الإمارات لأستقر فيها منذ عام 1984».
حكاية «جيل» مع الإمارات.. البحث عن الدفء والشمس والروح
ثمة ارتباط مع الشمس في حكاية «جيل إلفيرت» مع الإمارات، حيث كثير من الدوافع قادتها إلى تلك الأرض، تلك الأرض التي وصلت معها إلى مرحلة من التماس في العواطف والقيم، وحتى في البعد الروحاني.
تبيّن «ليس لدّي عائلة في بريطانيا لكون أهلي توفوا خلال الحرب العالمية الثانية، وفي بريطانيا، كان الطقس متقلباً، وكانت تمطر يومياً، وكنت أبحث عن الشمس، هذه الشمس التي وجدتها منذ قدومي إلى الإمارات العربية المتحدة. قدمت إلى هنا من عمان حيث قضيت بعض الوقت هناك، ولم أكن بحاجة إلى تأشيرة لكوني أحمل الجنسية البريطانية».
رحلة طويلة خلال سنوات، خاضت خلالها جيل - البريطانية تحديات كثيرة، لتتحول بعدها إلى بهية-المسلمة، ولتستقر في الإمارات، وتباشر تأسيس عمل جديد لها.
ففي تاريخ 4 أكتوبر 1984، بدأت رحلتها مع الإمارات، وهي رحلة مستمرة إلى اليوم، حيث عملت في أكثر من مجال، بضمنها في شركة إيطالية، ثم ما لبثت أن أنشأت شركتها الخاصة «كان الوضع مختلفاً آنذاك، وكانت فرص العمل كثيرة، وحتى عدد السكان لم يكن يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة، وكنا نرى الشيخ راشد، رحمه الله، وهو يتجول في دبي، وعندما كنت أدير عملي، كنت أحظى بإجازات، وفي بعض الأوقات كنت أقصد أمريكا لألتقي بأصدقاء لي هناك، وبعض المرّات إلى إنجلترا، وأماكن أخرى».
تبلغ بهيّة اليوم 84 عاماً، من عمر قضت نصفه في الدولة، ولم تعد ترغب في السفر والتنقل، وتكتفي برعاية حيواناتها الأليفة، والاهتمام بها «لن أسافر بعد الآن، لأنني اخترت أن اهتم، وأرعى حيواناتي، لديّ كلب واحد من فصيلة «الجيرمان شيبارد»، واسمه تووي، بأحرف Tui وهو اسم شركة المواصلات الألمانية، ولديّ ست قطط، وأرنبان، وأربع سلاحف، وتسعة عصافير».
كما أنها تستضيف حيوانات من الشارع، وتهتم بها، وترعاها، لأنها تؤمن بأنها «روح وقتل الروح حرام»، ونسألها عن مشهد مماثل لأطفال غزة الذين يعمدون إلى إنقاذ حيواناتهم من قطط وكلاب، وحتى أسماك من تحت الردم لترى «أنه مشهد يبعث على الألم».
تعلّق «أبلغ من العمر 84 عاماً، وأدرك تماماً أن ثمة أشياء في العالم لا يمكن تغييرها. لست سياسية، ولست شخصاً يمتلك ثروة كبيرة، وقد أتبرع ببعض المال للأطفال لتغيير بعض مسارات حياتهم، لكنني لست سوى امرأة بسيطة، لا أشاهد التلفاز بتاتاً، وأقضي يومي مع حيواناتي، وأقرأ جريدتي اليومية، وأهتم بالنباتات في حديقتي، لكني في الوقت نفسه أستخدم «الفيسبوك»، و«الإنستغرام»، وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي».
تشرح تفاصيل وضعها، وسلامها الداخلي، ومسؤولياتها تجاه هذه «الأرواح»، وتوضح «عندما انتقلت إلى بيتي الجديد في الشارقة، منذ سنوات، أيقنت أنني لن أستطيع السفر كثيراً، إلا إذا تخلّصت من جميع الحيوانات، وقلت لنفسي لقد سافرت كثيراً بالفعل، إنه أمر جيد، لذا سأبقى في المنزل، وأكون سعيدة الآن للاهتمام بحيواناتي التي تعتبر عائلتي»
«جيل» تشهر إسلامها وتتحوّل إلى «بهية»
قبل عشر سنوات، اعتنقت جيل إلفيرت الدين الإسلامي وتحولّت إلى «بهيّة». فكيف بدأت الحكاية، ولماذا اختارت اسم «بهية» تحديداً؟ تجيب بهية «قد أكون مسلمة قبلها بثلاثين عاماً»، في إشارة إلى تماهيها مع قيم الدين الإسلامي، وأخلاقياته، وسط البيئة التي تحيط بها.
وتكمل: «أعتقد أنني شعرت بأني مسلمة بعد وقت قصير من وصولي إلى هنا، خلال شهر رمضان الأول لي في الإمارات. وجدت أن الصيام كان مذهلاً، وكنت أصوم كل يوم، وأشعر بالكثير من الطاقة، وهكذا قررت بعد فترة من التفكير، أنه مع تقدمي في العمر، قد يكون من الصواب التحول رسمياً، لأني أرغب أن أُدفن هنا».
ولاختيار الاسم دوافع عاطفية «اخترت اسم «بهية» تيمناً باسم جارتي في لبنان، والتي كانت تدعى «بهية»، وكانت تربطني بها صلة قوية جداً. اخترته لأجدد ذكراها، والحفاظ على هذه الذكرى بطريقة جيدة. فقد كانت صديقة مقرّبة لي، وعندما اخترت هذا الاسم، كنت أعيد إحياء «بهية» داخلي لأتذكّرها دوماً، بعد أن قتلت في الحرب اللبنانية، مثل كثيرين فقدتهم ممّن تركوا أثراً كبيراً في قلبي، كما أن معنى «بهية» جميل، ويجسد المرأة ذات الحسن والجمال».
تتبدّى فلسفتها الروحية أكثر عمقاً في علاقتها بالله سبحانه وتعالى، إذ تعتبر نفسها «امرأة مسلمة معتدلة»، «علاقتنا بالله هي علاقة إحساس، وقضية شخصية تلامس روحي. هي جزء من الفلسفة الخاصة بي، حيث أتلمّس وجود الله سبحانه وتعالى من حولي. فعند تجوالي نحو السادسة صباحاً مع كلبي تووي، أعايش لحظات مدهشة، حيث يكون القمر بهيا عند الفجر، وبعدها تشرق الشمس، هذه اللحظات رائعة، والكثير من الأمور التي تخبرك أن الله موجود حولنا في كل مكان».
وتضيف «بالنسبة إلي، الأمر يتعلق بشيء شخصي. أشعر كأن قلبي ينتمي إلى هنا، وعندما أموت، أريد أن أُدفن هنا. في النهاية، قررت جعل الأمر رسمياً قبل عشر سنوات، وربما في قلبي تحولت إلى الإسلام قبل 30 عاماً».
«جيل» مع عصافيرها
احتفالية الأربعين عاماً في الإمارات وزمن البدايات
مع بداية العام الجديد، تكون بهية البريطانية-المسلمة دشّنت العام الأربعين لوجودها في دولة الإمارات، تقول ممازحة «ربما أقيم حفلة للاحتفال بهذه المناسبة، وأتمنى مع احتفالية العام الأربعين أن أكون على قيد الحياة».
وربما السؤال الذي يعانق كثيرين: لماذا لا تعود بهية إلى بريطانيا وتحظى بحياة كريمة؟ تقول بالعربية «هذه هي الحياة»، وتكمل بالإنجليزية «اعتدت أن أفهم أي وجهة نظر، وأتقبّلها، وأحياناً تعاندنا الحياة بمواقف قد نضطر إلى تقبّلها، أو نتعايش معها».
ويبدو جوابها حاسماً، فهي تعيش حياة كريمة هنا، وتناضل من أجل الحفاظ على حيواناتها، وإطعامها، ورعايتها، وتوفير متطلباتها الطبية، تشير «أعلم أن الكثيرين لا يفهمونني، ولكن ذلك لا يهم، لأن مهمتي ليست أن أجعلهم يفهموني. تلك الأمور تتعلق بسعادتي، وإذا كنت على قيد الحياة لرؤية الأشياء بشكل إيجابي، هذه هي النقطة. هذا هو الطريق الذي يهمني، وآراء الآخرين ليست من شأني، إلا إذا تفاعلت معها. إذا أردت أن تفكر في شيء، يمكنك التفكير فيه ولا يؤثر ذلك فيّ كثيراً، طالما أعلم أن حياتي لا تضر أحداً، وأنني لا أخدع أحداً».
وتطرح بهية مفهوم «ميكانيكا الكم»، لتترجم نظرتها للحياة، حيث «تجسد» ميكانيكا الكم «جزيئات تبعد عن بعضها كيلومترات، ومع ذلك يمكنها التفاعل مع بعضها بعضاً»، وتشرح «إنه علم يمكنك دراسته، ويتعلق بكيفية بناء كل شيء في العالم، في الكون بأسره، ونحن جميعاً جزيئات ترقص فقط».
تعتبر أن تجربتها كامرأة بريطانية عاشت في الإمارات على مدى الـ40 عاماً الماضية كانت تجربة رائعة «قابلت العديد من الأشخاص الطيبين، والمحبين، والداعمين، وأشعر بانتمائي إلى هذه الأرض، وسأعيش هنا بقية حياتي».
«جيل» مع كلبها «تووي»
فكيف وازنت جيل، أو بهية، بين كل الثقافات التي عايشتها؟
تؤكد «عشت في دول عدة، منذ كنت شابة، ولا أجد صعوبة في التأقلم مع الثقافات المختلفة. أستمتع بوجود العديد من الأصدقاء المسلمين، وأصدقاء من دول أخرى، وكنت محظوظة بلقاء بعض الأشخاص الرائعين هنا، وأستمتع بصحبتهم، ويبدو أنهم يستمتعون بصحبتي، لذلك لم أجد أي صعوبة على الإطلاق».
ما بين عام 1984، موعد قدومها إلى الإمارات، واليوم، تتلمس هذا التقدم المذهل الذي شهدته الإمارات «في توصيف الوضع الحالي، هناك فارق هائل، هذا هو الوصف الوحيد. كانت طريق دبي-الشارقة، على سبيل المثال، تحتوي على «حارتين»، إحداهما تذهب إلى دبي، والأخرى إلى الشارقة. في دبي نفسها، كان هناك نحو 38 مبنى سكنياً صغيراً، وكانت المنطقة على طول شارع الشيخ زايد خالية من أي مبنى. كان عدد السكان أقل بكثير، وكنا نعرف المزيد من الناس. أعتقد أن دبي باتت مدينة نشطة جداً، والكثيرون مشغولون جداً. أنا محظوظة لأنني أعيش في ركن هادئ جداً في الشارقة، حيث الحياة لا تزال بطيئة، وأحب ذلك».
* تصوير: السيد رمضان