في ثنايا العمر الذي تجاوز الثمانين، يحمل خليل عيلبوني، ذاكرته الحية، ويوقد من تفاصيلها حرارة الأيام الماضية، ومشهدية الوحدة تحت علم الدولة.
عيلبوني، وهو أول إعلامي أعلن قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة عبر إذاعة أبوظبي، كان شاهداً على تلك اللحظة التاريخية، وهو يحمل «مسجّله» الذي يزيد وزنه على 10 كيلوجرامات، لينقل وقائع هذا اليوم المجيد.
على مكتبه، تتناثر أوراق الذاكرة، بساعاتها ودقائقها وثوانيها، كما كتبه التي أرّخت للكثير من المراحل التاريخية للدولة، عبر كتاب «أبو ظبي زمن البدايات»، ويرصد فيه علاقته الآسرة بإمارة «أبوظبي»، وبملامحها التاريخية التي واكبت قيام الاتحاد، أو عبر كتاب «زايد الإنسان» الذي أرّخ فيه لحكايات المغفور له الشيخ زايد، ومواقفه، ومآثره.
في لقائه مع «كل الأسرة»، يستعيد خليل عيلبوني ذكريات جميلة عاشها قبل أكثر من 50 عاماً، وبالتحديد في الثاني من ديسمبر 1971: «قبل إعلان الاتحاد بيومين صدر قرار من حكومة أبوظبي- وزارة الإعلام، وقّعه معالي راشد عبد الله، وكان وقتذاك وكيلاً لوزارة الإعلام والسياحة، وفي هذا القرار، تمّ تكليفي، مع مجموعة من الزملاء في الوسائل الإعلامية الأخرى، وكنت أمثّل إذاعة «أبوظبي»، ووردت أسماء كل من: سعيد الغيث (عن تلفزيون أبوظبي)، خليل عيلبوني (عن إذاعة أبوظبي)، حمدي تمام (عن جريدة الاتحاد)، والمصورين عيسى عبدالله يوسف وسيف الدين العمراني، حيث ورد أنه «تقرر تكليفكم بالسفر إلى دبي كوفد إعلامي اعتباراً من الـ30 من نوفمبر 1971 ولمدة أقصاها خمسة أيام».
الاجتماع التاريخي بين جلسات عامة وجلسات مغلقة
كانت المهمة الإعلامية جليلة، وهي تسجيل لحظات قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، ونصّ جدول الأعمال على اجتماع تاريخي لأصحاب السمو حكام إمارات أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، والفجيرة، المقرر عقده في دبي عند الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الخميس الواقع في 15 شوال سنة 1391 هجري، والموافق 2 ديسمبر عام 1971 ميلادي.
كان عمر عيلبوني آنذاك لا يتجاوز الـ 30 عاماً، و«في زمن البدايات»، كما يطلق عليه، حيث يسرد تفاصيل تلك «اللحظات التاريخية»: «كنت في مقتبل العمر، وفي منتهى الحيوية والشباب. كنا نعيش «زمن البدايات»، ذلك الزمن الجميل، رغم عدم توافر الإمكانات. كان لديّ جهاز تسجيل يزن أكثر من 10 كيلوجرامات (جهاز ريل بكرة)، ولكن كنت أحمله كأنني أحمل هاتفاً خلوياً».
ويكمل: «يوم التكليف، قصدت دبي مع الوفد الإعلامي، وتواجدنا في قصر المغفور له بإذنه تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، منذ الصباح الباكر، وفي جدول الأعمال الذي حصلت عليه بطريقة خاصة، كانت هناك جلسة مغلقة لإقرار جدول الأعمال، ولإعلان العمل بأحكام الدستور المؤقت، تلاها الاجتماع التاريخي الأول للمجلس الأعلى للإمارات العربية المتحدة، بجلسة مغلقة تخللها انتخاب رئيس الاتحاد، وانتخاب نائب رئيس الاتحاد، وتأدية القسم الدستوري من الرئيس، ونائب الرئيس، وتعيين رئيس مجلس وزراء الاتحاد، وإقرار علم الإمارات العربية المتحدة، ومن ثم إقرار البيان بإعلان العمل بالدستور المؤقت، وبقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديد موعد الاجتماع القادم، ثم عقد جلسة عامة تخللتها تلاوة البيان بقيام دولة الإمارات، والاحتفال برفع العلم الاتحادي، وتوقيع معاهدة الصداقة بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة، من قبل صاحب السمو رئيس الاتحاد، وفخامة المقيم السياسي، وتبادل الكلمات بينهما بمناسبة توقيع معاهدة الصداقة».
كانت ثمة نقطة حدودية لمراقبة جوازات السفر بين دبي وأبوظبي وبمجرد إعلان الاتحاد، أزيلت تلك النقطة
ولكن كيف عاش خليل عيلبوني هذه اللحظات شخصياً، وهو يستظل بفيء دولة موحدة تحت قيادة الشيخ زايد، طيّب الله ثراه ؟
الإجابة تطلّ به على صورته وهو يحمل «المسجّل» أمام العلم الذي كان يرفرف خفاقاً: «كنا فعلاً نشعر بأننا نعيش لحظة تاريخية، نرى فيها اتحاداً اكتمل بشكله الحالي بعد نحو شهرين بانضمام رأس الخيمة إليه. كانت مشاعرنا فياضة بالحب والاعتزاز والفخر، خاصة أن ثمة مشهداً ما زال راسخاً في ذاكرتي، وهو أنه عندما ذهبت إلى دبي مع الوفد، كانت هناك نقطة حدودية تراقب جوازات السفر، وتختمها، كأنني ذاهب من دولة إلى دولة، وفي طريق العودة، أزيلت تلك النقطة، ما أشعرنا حقيقة بأهمية تلك اللحظة التاريخية بإعلان الاتحاد».
عيلبوني عبر إذاعة «أبوظبي»: مبارك قيام الاتحاد
كل عام، يتردّد صوت خليل عيلبوني وهو يعلن قيام الاتحاد، ويبارك هذا الإنجاز للشعب الإماراتي. ففي كل احتفالية بعيد الاتحاد، تتردد كلماته: «الآن أقول لشعب دولة الإمارات، وللأمة العربية، وللعالم كله، مبارك قيام دولة الإمارات العربية المتحدة».
بتلك الكلمات أعلن مذيع إذاعة «أبوظبي» قيام الاتحاد: «يومها، صافحنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والحكام، مباركين لهم قيام الاتحاد، وكانت لحظات تاريخية عشناها معهم، وترصد صورنا معهم الفرح الحقيقي الذي عشناه».
الشيخ زايد.. والاتحاد
في تلك اللحظة التاريخية، وفي رصد ملامح الإنجاز الأهم في مسيرة دولة الإمارات، لا بدّ من حضور بهيّ للشيخ زايد، رحمه الله، حيث يحلّل عيلبوني رؤية زايد القائد لهذا الإنجاز: «إضافة إلى أنه انتصار قومي عربي، كان الشيخ زايد يشعر بأنه انتصار شخصي، لأنه كان يحب الاتحاد، وعمل بقوة من أجل تأسيسه، وكان على يقين بأنه لا حياة لهذه الإمارات إلا بالاتحاد، لأنهم شعب واحد، حيث كانوا يعيشون سوياً في الزمن الصعب، الزمن قبل اكتشاف النفط، وكان يرى أنه بالاتحاد يحقّق طموح جميع أفراد الشعب. ولذلك، عندما نظمت قصيدة في الاتحاد قلت: «لم يقم في واقع الأمر اتحاد... إنما عادت كما كانت بلاد».
وحول شعوره وهو يسمع صوته يتردد في احتفاليات عيد الاتحاد على مدى 52 عاماً: «بصراحة، أحسد نفسي لأنّني عشت هذا الوقت التاريخي، وأحياناّ لا أستطيع أن أمنع الدمعة، ولكنها دمعة الفرح، ودمعة الحب. الاتحاد حقيقة عشناها، وأجمل ما كان في ذلك اليوم هو وجود الطريق معبّداً بين أبوظبي ودبي، حيث أذكر أنه عند مجيئي إلى أبوظبي، لم يكن هناك طريق، وكان السفر من أبوظبي إلى دبي يشكل مخاطرة كبيرة، إذ يجب أن تكون السيارة مجهزة ومزودة بالماء والطعام لصعوبة الطريق، وقد بدأ تعبيد الطريق عام 1968 عند اجتماع الشيخ راشد والشيخ زايد، طيّب الله ثراهما، في أبوظبي ونتيجة لهذا الاجتماع، قرر الشيخ زايد أن ينشئ الطريق من أبوظبي إلى دبي، وكانت أبوظبي اكتشفت البترول، وبدأت بتصديره من المناطق البحرية عام 1962 فكان اقتصادها قوياً. وكان هذا الطريق هدية الاتحاد وامتد، فيما بعد، ليشمل الإمارات كلها».
«أبوظبي زمن البدايات»
في كتابه: «أبوظبي: زمن البدايات»، يرصد عيلبوني المراحل التاريخية لإمارة أبوظبي وبداياته «الجميلة» في تلك الإمارة: «كان زمن البدايات صعباً و جميلاً في آن، لأنّه أسس لهذه الدولة التي أصبحت الآن من أهم الدول النموذجية في العالم، حيث التركيز على الإنسان الذي اهتم به الشيخ زايد، وإخوانه الحكام، والذين يؤكدون أن الاستثمار الأفضل هو الاستثمار في الإنسان، ولذلك، أمّنوا للمواطن العلم والحياة الكريمة ليشارك في نهضة الدولة في مختلف المجالات، واستطاع هذا المواطن، من خلال السياسات القائمة، أن يحوّل هذه الدولة من الاعتماد بنسبة 100% على النفط إلى تنويع مصادر الدخل.
اتحاد تجاوز الحلم
تجاوز الاتحاد بنهضته ومسيرته حلم عيلبوني ورؤيته الاستشرافية كإعلامي ومحلّل: «أصارحك، كان لديّ الثقة بأن هذا القائد (الشيخ زايد) الذي يعرف ماذا يريد، يطمئن المواطن بفعل الإيمان بما سيقوم به. لذلك، كان الاتحاد بالنسبة إلي هو مفتاح الأمل الذي قادني، بعد قيامه، إلى الشعور بأن الدولة العظيمة قائمة، وستتطور إلى دولة نموذجية، ولكن ما تحقق تجاوز الحلم الذي كنت أحلم به، وتجاوز التوقعات، لأن القيادة لم يكن لها همّ إلا التقدم، وتحقيق الإنجازات، وتحقيق الحياة الكريمة للمواطن، وللمقيم على أرض هذه الدولة.
أنا أنتمي إلى القائد
خليل عيلبوني، ذلك الفلسطيني الذي يحمل اليوم الجنسية الإماراتية، يحمل في قلبه طبريا، مسقط رأسه: «أنا من بلدة تدعى طبريا.. ترتاح على شاطئ بحيرة.. حسناء المنظر حورية.. تتزنر سوراً أثرياً.. وبحيرتها مرآة في يدها.. تخشى أن ترفع عنها عينيها فهي تغار.. لو هبت ريح مجنونة في ذات نهار... تفسد زينتها بهجتها تبهت خضرتها نضرتها... قد كنت صغيراً يوم تركناها.. لكني أذكر يا أحباب بدم الشهداء فديناها».
هذا الفلسطيني وجد في دولة الإمارات «إن المواطن العربي مواطن شامل»: «كان الشيخ زايد لا يفرق بين عربي وآخر، ما عززّ انتمائي ليس إلى الأرض فقط، بل إلى الرجل، وإلى القائد، وقد حصلت، بفخر واعتزاز، على جنسية دولة الإمارات بكرم وبمشاعر عربية حقيقية، وأعتز بأنني مواطن من هذه الدولة العربية العظيمة التي عندما أنتمي إليها، أكون عربياً بمعنى الكلمة، وأنا فخور بأنني مواطن في دولة الإمارات العربية المتحدة، بما تمثله هذه الدولة من قيم إنسانية، حيث نرى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، يقدم الدعم لكل الدول العربية ولكل محتاج في العالم».
لا يفصلني عن د. مانع العتيبة سوى الموت
وعن علاقته بالدكتور مانع سعيد العتيبة، يقول: بالنسبة إلي، معالي الدكتور مانع العتيبة هو الرجل الأول الذي تعرفت إليه عند وصولي إلى الدولة، وقد عملت معه منذ ذلك الوقت من خلال برنامج «البترول.. الذهب الأسود»، ثم أصبحت مستشاره الإعلامي، ومن ثم مدير مكتبه، وما زلت معه حتى الآن، ولن يفصلني عنه سوى الموت.
كان الدكتور مانع العتيبة يعمل مع الشيخ زايد، حيث كان وزير البترول والصناعة في إمارة أبوظبي، ومن ثم وزير البترول والثروة المعدنية في عام 1972: «بفضل الدكتور مانع العتيبة، تعرفت إلى الشيخ زايد، والتقيت به، وقمت بإعداد كتاب «زايد الإنسان» للإطلالة على تاريخ هذا الرجل العظيم، وسرد حكايات عشتها معه».
ومن تلك الحكايات، يسرد عيلبوني موقفاً جمعه مع الشيخ زايد: «عام 1972، زار الشيخ زايد الإذاعة، والتقيته، حيث أبدى إعجابه ببرنامج «الذهب الأسود»، وسألني عن مشهد النار المشتعلة في مقدمة البرنامج، فأجبته بأنه نتيجة «هذا الغاز الذي نفصله عن النفط الخام ونحرقه». فقال مستنكراً: وهل أنت فخور بأن أبوظبي تحرق غازها. فهذا الغاز ثروة».
ولم يطلب مني إلغاء، أو تغييراً في المقدمة لأكتشف، بعد ذلك، إنشاء مصنع تسييل الغاز في جزيرة داس، حيث احتفلنا في 3 ديسمبر 1973 بوضع حجر الأساس لهذا المصنع، وكنت عريف الحفل، وصمم على عدم إلغاء مقدمة البرنامج قائلاً: «لا تلغِ أي شيء. نحن سنطفئ تلك الشعلة». وفي عام 1977، انطفأت شعلة النار المشتعلة بفضل المباشرة في تسييل الغاز وبيعه لليابان.
الشعر واللغة العربية
كان الشعر مرافقاً للإعلامي خليل عيلبوني في مسيرته، حيث التقى وقدم في برامجه عبر إذاعة «صوت العرب»، و«صوت فلسطين» من القاهرة، أسماء شعرية رائدة، بينها الشعراء محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وغيرهم الكثير.
يعّد عيلبوني موسوعة حيث يجمع بين التأريخ والإعلام، والشعر والذاكرة الحية لمجريات قيام الاتحاد، لكنه اليوم يتوّج مسيرته باختيار اللغة العربية قضيته الكبرى، بعد أن أنشأ معهداً لتدريس اللغة العربية في وزارة الداخلية، بطلب من الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، وإصداره كتاب «شاعر وقصيدة»، بجزأيه، ويتناول دراسة للشعر العربي من الجاهلية إلى الإسلام، إلى الأموي، والعباسي، والأندلسي، ويعكف حالياً على دراسة شعراء معاصرين.
يقول: «أشعر بأني أنهيت بعض الواجبات تجاه الشعر العربي. أهدف إلى نشر اللغة العربية لأنها هوية الإنسان العربي، ومع الأسف، كثيرون لا يستطيعون التحدث بهذه اللغة ويجيدون اللغات الأجنبية. ورغم كل شيء، سأظل مناضلاً من أجل رفعة مكانة هذه اللغة».
رسالة للأجيال في عيد الاتحاد
نختم اللقاء بسؤاله: في عيد الاتحاد 52 ، ما الكلمة التي يوجهها خليل عيلبوني، ولمن؟
يجيب: في هذه المناسبة، أقول إن الاتحاد لم يعُد مجرد شعار، أو إنجاز، بل أصبح يعيش فينا، حيث تجاوزنا مرحلة البناء الفكري للاتحاد، إلى «عيش الاتحاد»، ورسالتي ألا ينسى الجيل الحاضر ما فعله جيل الشيخ زايد، والشيخ راشد، رحمهما الله، وجيل الحكام لتأسيس هذا الاتحاد على دعائم قوية وثابتة، واستحضار هؤلاء المؤسسين في الدعاء و التكريم والذكر الطيب.