فيلم «المخدوعون»
منذ النكبة البعيدة والسينما الفلسطينية ترصد الوضع في فلسطين، وتحاول تقديم صور وحكايات عن الاحتلال وفداحة تأثيره. وكانت الأفلام مختلفة في مستوياتها، كما في مواضيعها، لكنها اجتمعت على هدف واحد.
لا يجب الاعتقاد بأن السينما العربية لم تتفهم الدور المنوط بها حيال القضية الفلسطينية، لكن في العديد من الأحيان، خصوصاً في الستينات ومطلع السبعينات، عالجت الموضوع الفلسطيني بسلسلة من الأفلام الركيكة، فنياً وإنتاجياً وإعلامياً. أفلام ذات نوايا حسنة لكنها لا تتمتع بالإجادة الفنية لكي ترفع من صوت القضية عالمياً. الوجهات الوحيدة لمثل تلك الأفلام (التي أنتجتها فتح والجبهة الشعبية وجهات فلسطينية وأحياناً لبنانية) كانت الجمهور العربي (ليس جميعه بالطبع)، والمهرجانات الشرق أوروبية (لايبزغ، موسكو من بين قلة أخرى).
وخلال تلك الفترة كان هناك زخم كبير من الأفلام التسجيلية والوثائقية الإحتجاجية التي ترفع شعار المقاومة، والفداء. والجمهور الذي ولد قبل النكبة، أو خلال السنوات اللاحقة لها كان لابد له أن يؤيد هذه الدعوات التي تحمل في كياناتها حقوقاً مهضومة لعدالة، واستعادة وطن وسلام. لكن النبرة العسكرية في هذا الصدد لم تكن نافعة، ولا تصوير المخيمات الفلسطينية وحياة البؤس فيها على نحو يطلب التعاطف. ثم لا تركيز للكاميرات على ضحايا الغارات الإسرائيلية لتصوير قتلى وجرحى وأطفال مصابين.
وعندما انبرى الراحل، كرستيان غازي، لتحقيق فيلم «الفدائيون» سنة 1967 حمل في صدره رسالة إيجابية، لكن الفيلم لم يؤد إلّا إلى خروج أفلام روائية تستغل العواطف الطرية للجمهور لتحقق عائدات مادية كبيرة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وقبل أن يكتشف الجمهور إنها أعمال تستغل القضية للكسب، وتكرر نفسها خلال ذلك.
من هذه الأفلام «كلنا فدائيون» لغاري غراباتيان (1969)، و«الفلسطيني الثائر» لرضا ميسر (1969)، و«فداك يا فلسطين» لأنطوان ريمي (1969)، و«أجراس العودة» لتيسير عبود (1970)، وصولاً إلى «الاختراق» لكنعان كنعان (1974).
ويكشف فيلم «خارج الإطار: ثورة حتى النصر» لمهند يعقوب (2017)، عمّا وقف وراء عدد كبير من أفلام تلك المرحلة، وما آلت إليه. فيلمه جامع لما شهدته القضية الفلسطينية آنذاك من أفلام بروباغاندا حققها بإيمان لا يعرف سبيلاً آخر، مخرجون تسجيليون مثل العراقي سمير، والفلسطينيين مصطفى أبو علي وهاني جوهرية، واللبناني رفيق حجار، والأردني عدنان مدانات (رغم أن أفلامه لم تكن صرخات مولولة أو استغلال ظرفي بل كانت وثائقيات معتنى بها أكثر من سواها).
وسيلة المخرج مهند يعقوبي التذكير بالتاريخ عبر وثائق من صحف، وملفات، وصور أرشيفية، لكنه خلال ذلك لا يبتعد بدوره عما صاغ تلك الأفلام من قبول بالشكل المتواضع المتاح.
المخرج برهان علوية
مخرجون جادون تناولوا القضية الفلسطينية
على أن الفترة ذاتها شهدت أفلاماً جيدة حول هذا الموضوع. وكان لابد أن يدرك مخرجون ذوو قدرة على فهم الأسلوب الذي يمكن من خلاله معالجة قضية كهذه، كيفية الالتزام بالسينما غير الجماهيرية، وقدراتها على طرح ما يترك تأثيراً فكرياً ومعارفياً في ذوات المتلقين.
في العام 1974 قام برهان علوية بإنجاز فيلمه «كفر قاسم». وأرّخ هذا الفيلم الروائي المنفذ بأسلوب السينما غير الروائية لمجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي سنة 1956 بعد أيام من تأميم القناة، وبدأ بتعريفنا بالشخصيات، ومن بينها سمسار العمال الذي يتعاون مع المختار لإقناع الفلسطينيين بالعمل عند رب عمل إسرائيلي، في الوقت الذي تخطط فيه القيادة العسكرية للإيقاع بفلسطينيين أبرياء عائدين من حقولهم فتعلن حالة الطوارئ، نهاراً وتقبض عليهم ليلاً بتهمة خرقها ثم تعدمهم بلا رأفة. الجريمة لا تزال بلا محاكمة، والقائمون بها، ماتوا، أو بقوا أحياء، لم يمتثلوا لأي قانون.
ينقد الفيلم، بوضوح، استغلال بعض الفلسطينيين للوضع عند قيامهم بمحاولة الاستفادة من الاحتلال، إما بالتحول إلى أزلام، وإما عبر مسايرة الأوضاع المعيشة، وإما عبر احتلال مراكز وسيطة يمكن من خلالها إرضاء المسؤولين من جهة، واستغلال الإنسان الفلسطيني من جهة أخرى، والذي صنفه الحكم الطبقي عاملاً، أو مزارعاً، وفقيراً في الحالتين.
لكن أجندة المخرج علوية هنا تدين المجزرة من دون افتعال، أو عواطف، أو مغالاة. يلقي المخرج اللبناني ضوءاً على الفلك المحلي الذي تدور فيه الشخصيات، والحياة داخل القرى الفلسطينية إجمالاً، والتي ترتكز على وجود فئات من الناس أغلبها من الفئة العاملة وأنماط حياة، تتضمن أجواؤها الكبت في ظل السلطة المحتلة وعملائها، ومعيشة قاسية ضمن المخطط الكبير المدبّر للاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم وحرمانهم من أية حقوق مشروعة والنيل منهم. هذا المخطط لم يبدأ بمجزرة كفر قاسم، بل تم تفعيله منذ اللحظات الأولى للاحتلال سنة 1948 بشواهد متعددة.
اقتبس برهان علوية مادة فيلمه من رواية عاصم الجندي، وقبل ذلك بعامين كان هناك اقتباس روائي مهم آخر (ومختلف أسلوبياً) هو «المخدوعون» للمخرج المصري توفيق صالح، الذي استوحى رواية غسان كنفاني «رجال تحت الشمس»، وصنع منها واحداً من أفضل أعماله، وتدور حول تبعات النكبة من حيث محاولة ثلاث فلسطينيين التسلل إلى بلد خليجي عبر دخول صهريج ضخم بمعرفة السائق الذي سينطلق بهم من عمان إلى ذلك البلد. المعاناة الفردية كبيرة، والفيلم ينتهي بمأساة موت الثلاثة بسبب الحر الشديد الذي لا يمكن تحمّله داخل الصهريج.
النكبة ومآلاتها.. في السينما
هناك اشتراكات من مخرجين عرب عديدين، لكن الكرة تقع في أيدي مخرجين فلسطينيين هذه الأيام، ولأسباب واضحة، فكل من رشيد مشهراوي، وهاني أبو أسعد، وميشيل خليفي، وإيليا سليمان، عاشوا تبعات ما بعد النكبة، وما زالت تشغل بالهم.
يلقي المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في فيلمه «استعادة» (Resoration) (2021)، الذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة الأولى من مهرجان «البحر الأحمر» في المملكة العربية السعودية، نظرة حانية وتعليقاً من نوع الذكريات مع مشاهد عدة، ومقابلة مع حيفاوي يوفر صورة كاملة للحياة الاجتماعية والثقافية لمدينة حيفا، التي ولد فيها، قبل احتلالها.
حيفا قبل 1948 كما لا نعرفها. أناسها، وشوارعها، وبحرها، وصيادو السمك، ومرتادو المطاعم والمقاهي وصالات السينما. تحية للمدينة التي عاشت عائلة مشهراوي فيها قبل نزوحها إلى قطاع غزة.
المخرج رشيد مشهراوي
يجري المخرج رشيد مشهراوي، بصوته الهادئ وطريقته المفضلة في الإلقاء، مقابلة مع «حيفاوي» قديم (الطاهر القليبي)، يتذكر الماضي كما لو كان يمر أمام عينيه الآن. الفيلم مشغول بتوليف يتيح له سرد تاريخ نابض بالحكايات والنواحي الاجتماعية المختلفة للحياة. ويتوقف من خلال ذكريات القليبي، عند صالات السينما في حيفا الأمس البعيد، مثل «الشرق»، و«نبيل»، و«الحمرا»، ويعرض بعض ما كان فلسطينيو ذلك الزمان يشاهدونه من أفلام مصرية، مثل «نشيد الأمل» مع أم كلثوم (نسمع كذلك بعض أغانيها)، و«ضربة القدر» مع يوسف وهبي.
كل ذلك مع ابتعاد مشهراوي المعتاد عن الإثارة الخطابية والسياسية، منتهجاً الرغبة في تناول ما هو فلسطيني من خلال ذاكرة مواطنيها، وقدرة السينما على الإيحاء بزمن مضى. يستخدم المخرج الصوت للإيحاء بالحياة. ومشاهد البحر تمتزج مع صوت الأمواج. والمقاهي مع أصوات مغنين. الوثائقيات المختارة تعكس مستوى حياة شعبية جميلة، وتوليف هذه المشاهد مع بعضها بعضاً والإنتقال منها إلى المتحدث عنها، سلس وجيد.
قبله بسنوات عدة، تصدى المخرج الفلسطيني المهاجر ميشيل خليفي، لموضوع تبعات النكبة والاحتلال عبر فيلمين مهمّين، هما «ذاكرة خصبة» (1981)، و«عرس في الجليل» (1987). ومثل كثير من الأفلام التي قام بتحقيقها عرب، من فلسطين وخارجها، لم تعد النكبة بحد ذاتها هي مجال طرح مباشر. فالنكبة عند هؤلاء (بينهم كذلك هاني أبو أسعد وإيليا سليمان)، ليست هي محط البحث، بل تبعاتها، كما الحال في «يد إلهية» لإيليا سليمان، و«الجنة الآن» لهاني أبو أسعد.
بين هؤلاء أنجز هاني أبو أسعد نقلة مهمة عبر فيلميه «الجنة الآن»، و«عمر»، اللذين تناولا الوضع الفلسطيني بدقة وتوازن، ما أتاح له عروضاً دولية شملت ترشيحهما للأوسكار. من ناحيته قام إيليا سليمان بتحقيق عدة أفلام في الصميم الفلسطيني، لكن بأسلوبه الساخر الذي يميل إلى الفانتازيا الساخرة، وأحد أهم أفلامه في هذا الصدد «يد إلهية».