اعتادت مجموعة من الصديقات والأصدقاء على العشاء سوية في الخميس الأخير من كل شهر. ولم تكن لقاءاتهم لتبادل السلامات والسؤال عن الأحوال والثرثرات المعتادة فحسب، بل كانوا يختارون موضوعاً يتفقون عليه ثم يدلي كل واحد منهم برأيه فيه.
في واحدة من اللقاءات كان السؤال: أي دولة في العالم هي الأكثر حضارة اليوم؟ أو بالأحرى ما الذي يجعل شعباً من الشعوب يتفوق على غيره في التقدم الإنساني والتمدن؟
قال الأول، وهو محام: «برأيي إنه احترام القانون وأن يكون المواطنون سواسية أمامه. فالدولة التي تطبق قوانينها على كل مواطنيها بدون تمييز في العرق والجنس والعقيدة سيكون لها شعب سعيد يمارس حقوقه ويلتزم بحدود حريته بحيث لا تقلق حرية جاره».
الرأي الثاني جاء من سيدة تحمل شهادة رفيعة في الاقتصاد. قالت إن سياسة رشيدة لضبط ميزانية الدولة هي ما يؤمن لشعبها الرفاهية وتحسين شروط العيش. وهذا سيخلق بالتأكيد مجتمعاً متحضراً ومتعلماً تعليماً جيداً، مجتمعاً واعياً.
توالت الآراء من كل صوب. هناك من تحدث عن الديمقراطية، وهناك من دعا إلى تجديد مفاهيم الثورة والوطنية، كما رأى آخر أن السلام هو الشرط الأول للتحضر. لا مدنية مع الحروب والنزاعات التي تستهلك الموارد، ولا تقدم بدون استقرار.
تداخلت الأصوات مع رنين الملاعق وحركة السكاكين في الأطباق. ارتفعت وتيرة واحد من المجموعة وقال إن السؤال غير واضح. إذ يجب أولاً تحديد معنى المدنية. هل هي وفق المفهوم الغربي أم هي تلك التي تلائم عاداتنا وتقاليدنا؟
أتت الجماعة على صحون المقبلات وانتقلت إلى الطبق الرئيسي وانتهت منه. حان وقت التحلية. فجأة انتبه الجميع إلى واحدة من الحاضرات لم تفتح فمها بكلمة ولم تدل بدلوها بين دلاء رفاق العشاء.
خير؟ لماذا لم نسمع صوتك؟
مسحت السيدة فمها بمنديل المائدة وقالت بصوت هادئ: «تعرفون أن عملي يفرض علي أن أسافر كثيراً وأتعرف إلى دول عديدة شرقاً وغرباً. اسمحوا لي أن أخبركم بما عدت به من رحلاتي وتجاربي: إن أكثر الدول حضارة هي تلك التي تدخل دورات المياه في مطاراتها ومطاعمها وأسواقها ومنشآتها السياحية ومرافقها العمومية فتجدها نظيفة عطرها مثل الورد».