جندية أوكرانية
في صحيفة «لوموند» الفرنسية، مؤخراً، تحقيق عن النساء الأوكرانيات المقاتلات. نقرأ فيه أن هناك 41 ألف امرأة في الجيش الأوكراني، بينهن 5 آلاف في جبهات المعارك. وهؤلاء الضابطات والجنديات لم يلبسن البزة العسكرية بعد الحرب القائمة منذ أكثر من عام مع روسيا، بل هن «ثمرة» عشر سنوات من الاستعداد والتدريب.
استوقفتني مفردة «ثمرة» التي ترجمتها حرفياً من الجريدة. أراها في غير مكانها. فالثمار ملونة وحلوة ولذيذة وملأى بالفيتامينات. أما الحياة العسكرية فمن مفرداتها البندقية والخوذة والبارود والدماء. لست من السذاجة بحيث أتصور كل الرجال من فصيلة الأسد وكل النساء من فصيلة الفراشات. لكني، كعراقية، أنفر من الحروب التي كانت سبباً في تدمير بلدي، وأفضل أن يشمر الرجال والنساء سواعدهم للبناء لا للتدمير.
تحضرني، في هذه المناسبة، واقعة كنت شاهدة عليها قبل سنوات طوال، ولم تفارق ذاكرتي. كنت ضمن وفد اتحاد النساء العربيات إلى مؤتمر المرأة العالمي في نايروبي بكينيا. كان ذلك في منتصف ثمانينات القرن الماضي، في عز الحرب مع إيران. وفي جلسة مخصصة للوفد العراقي ركزت المتحدثات على الدور الكبير الذي أتيح للنساء في كل مرافق الحياة بعد استدعاء الرجال للجبهات وخلو الدوائر المدنية منهم. قالت إحداهن إن المرأة صارت قائدة الأسرة، واشتغلت في المواقع العالية للوظائف ومنهن من يعملن في البناء والنجارة والسباكة والبيع في الدكاكين، وهي تجارب لم تكن مفتوحة لهن من قبل وقد ساهمت في تعزيز مكانتهن في المجتمع.
فجأة ارتفع من وسط القاعة صوت المناضلة السودانية فاطمة أحمد إبراهيم، لها الرحمة، ووقفت متلفعة بثوبها السوداني لتقول «أنا أعترض. لا يمكن للحروب أن تقدم فرصاً إيجابية للنساء ولا لأي مجتمع. إنها فترات من الدمار والموت والأحزان. وحتى عندما تحتل المرأة مكان الرجل فإنها لا تفعل ذلك طوعاً بل اضطراراً».
خيم الصمت على القاعة وأفسد رأي فاطمة مسار الجلسة التي كان يراد منها التعبئة وامتداح شجاعة العراقيات وقدراتهن. نعم، كانت نساؤنا باسلات ومضحيات طوال ثماني سنوات عجاف، لكن مضطرات. ولست أشك في أن كل واحدة منهن كانت تتمنى عودة أبيها أو زوجها أو شقيقها أو ولدها سالماً، وأن تتوقف الحرب اليوم قبل الغد.
ليتها كانت الحرب الأخيرة. لقد استعرت بعدها حرب أكثر هولاً. وكانت النساء أول من يدفع الثمن الباهظ وهن يفقدن الأمل ببيت آمن وحياة طبيعية لا تهددها المفخخات وعصابات الخطف والسلب والترويع. لذلك أراني متحفظة على صور النساء المحاربات، سواء في أوكرانيا وروسيا وقبلها في لبنان وكردستان. لقد صاغت الطبيعة المرأة لكي تمنح الحياة... لا لتسلبها.