لا تتوقف الذاكرة؛ بل تنقش في زوايا التاريخ حضوراً ولا أروع. فالمخطوطات العربية في أقطار العالم هي جسر تواصل بين الحضارات، وهي كنوز تضيء على العلوم والفنون الأدبية الإسلامية والتفسير والفقه وغيرها من مجالات كثيرة من العلم والمعرفة.
فإن تتخطى المخطوطات العربية النادرة في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا لأول مرة، الحدود الإسبانية إلى الشارقة عاصمة الثقافة العالمية، هو شهادة على ما تشكله الشارقة من مكانة راسخة على خارطة الثقافة العالمية واحتضانها لكل ما يشهد على عطاءات المسلمين عبر التاريخ.
14 مخطوطة نادرة حطت رحالها في مقر هيئة الشارقة للكتاب، يعود تاريخها إلى الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر ميلادي، ومعها قدم مدير «مكتبة الإسكوريال الإسبانية» خوسيه لويس ديل فالي ميرينو، بزاد معرفي يتجاوز 30 عاماً من العيش في أفياء المكتبة وفي ظلال تاريخ حافل بالأسرار.
يتحدث مدير مكتبة الإسكوريال بالكثير من الفخر عن تاريخ المكتبة ومحتوياتها وآليات الحفاظ على المخطوطات بدرجة رطوبة لا تتجاوز الـ20 درجة مئوية وبأعراف «فتح نوافذ المكتبة» عند زيارة شخصية مهمة للإسكوريال ترغب في البقاء.
يتوقف ميرينو عند مراحل ما قبل المعرض وجائحة كورونا التي أرست لبعض التأخير «كان القرار قبل بضع سنوات عندما زار صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مكتبة الإسكوريال الملكية عام 2019 أثناء مشاركة الشارقة كضيف شرف في معرض "ليبر" الدولي للكتاب في مدريد، إلى أن وصلنا إلى الشارقة أحد أهم الأماكن بهذه المجموعة الثقافية من بين 2000 مخطوطة عربية تتوفر في مكتبتنا، إلى جانب ما تزخر به مكتبات أوروبا من مخطوطات عربية في شتى مجالات المعرفة ومنها مكتبة الفاتيكان الأعرق في أوروبا".
كان اختيار 14 مخطوطة من بين هذا العدد الهائل من المخطوطات والكتب النادرة تحدياً، وبالأخص أن كلها أعمال ثقافية تواكب كل أنواع العلوم وميادين المعرفة في الفقه، علم الفلك، الرياضيات، قواعد اللغة، الشعر، الطب وغيره.
ففي هذه الفسحة من التاريخ الممتد بالجمال والمعرفة، يعيش ميرينو بين المخطوطات العربية واليونانية واللاتينية، حيث تحتضن الإسكوريال أهم الأعمال العربية «العمل الأهم هو المصحف الشريف الذي ينتمي إلى مولاي زيدان عام 1599 وهو عمل استثنائي لجهة الخطوط والكتابة».
هذا العمل تم إحضاره إلى المعرض ويعود لـ«المكتبة الخاصة للسلطان مولاي زيدان المغربي، وهو عمل ذو جمال رائع ومزين بزخارف مغربية غنية في معظم الصفحات وقد رسمت فيه علامات التشكيل باللون الأحمر، كما تمت كتابة عناوين السور الجميلة بشكل خاص بالخط الكوفي المذهب على أرضية زرقاء اللون»، وذلك كما جاء في شرح مفصل عنه ضمن المعرض.
مخطوطة "رسالة في علم الظلال"
حاول القيمون على المعرض أن تطل المخطوطات والوثائق والكتب على مجالات متعددة. فهناك كتاب في إعراب القرآن «البحر المحيط» للمؤلف أبو حيان الأندلسي ويعود لعام 814 هجري-1411 ميلادي، ويعد، كما جاء في الشرح، «المرجع الأول والأهم لمن يريد أن يقف على وجوه الإعراب لألفاظ القرآن الكريم»، وكتاب المسالك والممالك وهو «كتاب تاريخي جامع لعدد كبير من الكتب المؤلفة في السابق ويتناول عادات الشعوب وذكر العديد من القصص التاريخية وينبه على الغرائب والعجائب، رافضاً منها ما يتعارض مع المنطق».
كتاب "المسالك والممالك" لمؤلفه أبو عبيد الأندلسي
أتاح المعرض مخطوطات وكتباً أخرى منها مخطوط «ديوان شهاب الدين بن الخياط» و«الجواهر المجموعة والنوادر المسموعة» ومخطوط كتاب «المجموع الفائق من حديث خاتم رسل الخلائق» وكتاب «شرح تشريح القانون» وديوان شمس الدين الحنفي، ومن أشعاره:
هذا الذي كل من صلى عليه غدا ممن له عمل في الصدق مقبول
هذا الذي آمن البيت الحرام به من جيش أبرهة إذ أقبل الفيل.
وفر المعرض الذي امتد لأسبوع لزواره مجلدات وطبعات نادرة لكتب ومخطوطات في شتى صنوف العلم والمعرفة مثل التاريخ والجغرافيا والفلك والفلسفة وكلها باللغة العربية التي يبدي ميرينو الرغبة في تعلمها إلى جانب لغات عدة يتقنها.
جانب من مكتبة الإسكوريال
عدم الإلمام بالعربية لا ينفي هذا التماس العاطفي الذي يربط مدير مكتبة الإسكوريال الإسبانية مع المجموعة العربية في الإسكوريال، حيث يعتبرها من أهم المجموعات، وحيث باحثون كثر يأتون للبحث والتعرف إلى هذه المجموعة التي احتضنتها المكتبة منذ إنشائها في القرن الـ16 "كان من المتوقع تخصيص غرفة صغيرة للمخطوطات (نحو 4000 مخطوطة) بينها 2000 مخطوطة عربية، وكان لا بد من توفير مكان آمن لها وبالأخص بعد أن تسبب الحريق في خسارة عدد كبير من المخطوطات والكتب النادرة".
خوسيه ميرينو في معرض "المخطوطات العربية" بالشارقة
يعيش ميرينو في مساحة خاصة من التاريخ ويرغب في تعلم العربية كما يقول، حيث زار الإمارات نحو 10 مرات ولأغراض ثقافية. هذا التماس يطل به على تفصيل زوايا المكتبة، أسقفها المزدانة بالجداريات ومضامين المخطوطات العربية التي واكبت كل أبواب المعرفة وخاضت في كل مجالات العلم.
ثلاثون عاماً عاش فيها ميرينو بين أرجاء المكتبة وتنسم عطر التاريخ في أفياء أحد مواقع التراث العالمي المعتمدة من قبل اليونيسكو منذ عام 1984، يعود بالتاريخ وبالتفاصيل إلى احتضان الملك فيليب ملك إسبانيا لفكرة هذا المبنى وما احتواه من مخطوطات وكتب نادرة وهندسة معمارية عامرة بالزخارف المذهبة للمكتبة العابقة في أرجاء دير الإسكوريال، ويتوقف طويلاً عند مضامين المخطوطات العربية وما تحظى به من أهمية ثقافية وعلمية وما ترفد به المكتبة الملكية من أهمية استثنائية.
وإذ تعتبر الشارقة أول مدينة تستضيف معرضاً لأكبر مجموعة من المقتنيات العربية، يطل هذا الحدث على كون تلك المخطوطات تشكل جسر تواصل ين الحضارتين الإسلامية والإسبانية، حيث مازال التكوين الثقافي العربي قائماً منذ مئات السنين في تلك البقعة.
وما يعزز هذا التواصل هو المبادرات الثقافية، ومنها إقامة هذا المعرض، التي ترسخ موقع الإمارة الثقافي، مع توجيه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بترميم 8 كتب نادرة في مكتبة الإسكوريال، كمساهمة من الشارقة في الحفاظ على الموروث الثقافي العربي والإسلامي.
* تصوير: السيد رمضان