فيلم «لأجل بلدي»
يوفر الفيلم الفرنسي الجديد «لأجل بلدي»، إخراج رشيد حامي، لمشاهديه حكاية مجنّد جزائري اسمه عيسى (شاهين بومدين) قتل خطأ على أيدي رفاق السلاح الفرنسيين. والدته ناديا (لبنى أزابال) وشقيقه الأكبر إسماعيل (كريم لقلو)، يحاول حثّ الأكاديمية الفرنسية على دفن الراحل في مقبرة مخصصة لتكريم الذين سقطوا خلال الواجب، لكن القيادة الفرنسية تمانع في ذلك؛ لأن القتيل لم يسقط في معركة. هناك أخذ ورد (من دون تكرار) حول هذه النقطة، ثم نجاح الأم وابنها إسماعيل في دفع المسؤولين لقبول صلاة الجنازة الإسلامية الشرعية ودفنه، حيث رغبت العائلة.
هذا الخط ممتد في وسط ما نراه من أحداث، لكنه ليس الخط الوحيد. «لأجل بلدي» يتناول كنه العلاقة الأخوية والعائلية التي ربطت بين الأم وولديها، وبين الثلاثة والأب الذي كان رفض، خلال العقد الأسود في تاريخ الجزائر القريب (التسعينات حين انتشرت أحزاب التطرف)، الانتقال إلى فرنسا مع زوجته وولديه، ما نشأت عنه قطيعة كاملة.
يستخدم الفيلم «الفلاش باك» لسرد هذا الوضع، وكذلك لتخصيص علاقة الشقيقين بعضهما ببعض، وذلك من خلال زيارة إسماعيل لشقيقه المنتدب إلى تايوان وتعرّفه إلى عادات وتقاليد اجتماعية مختلفة. قليل من اضطراب العلاقة، لكن الكثير من دفئها العائلي، ما يبرر غضب إسماعيل من الإجراءات الفرنسية التي كادت أن تنتهي بدفن شقيقه على نحو غير لائق به.
هذا موضوع شائك لا يعالجه المخرج سياسياً (وحسناً فعل)؛ لأنه لا ينوي تنميط الشخصيات ودخول متاهات تفضي إلى فيلم آخر غير الذي في باله. سرد كلاسيكي النزعة، لكنه متين الحضور وتمثيل جيد من الجميع بلا تفاوت. بعض الفتور في مشاهد دون أخرى، لكن الفيلم يمضي في وجهته بلا مشاكل تذكر.
مهاجرون بين شقي الرحى
يبقى بالطبع أنه في صميمه، عن مهاجرين من إحدى دول المغرب العربي، وبذلك ينضم إلى عدد متزايد من الأفلام التي تطرح مشاكل الهجرة من زوايا مختلفة. أحد الجنود المجهولين في هذا الوضع هو المخرج عبدالكريم بهلول الذي تعرّض لعرب فرنسا منذ سنة 1984، عندما قدّم «شاي بالنعناع»، حيث لا تؤتي الهجرة ثمارها. بعد أن كتب لرشيد بوشارب سيناريو فيلم «شاب» (1991) عرّج بهلول إلى موضوع الهجرة من جديد في «مصاص دماء في الجنة» (1992)، ولكن بحبكة مختلفة: فتاة فرنسية من عائلة برجوازية تبدأ فجأة التكلم بالعربية من دون دراستها لها. هذا التحول ربطه المخرج بشاب عربي (فريد شوبل)، ربما يكون مصاص دماء، لكنه واحد من الذين لا ينوون الشر لأحد.
في آخر أفلامه مخرجاً «رحلة إلى الجزائر» (2009) قام رشيد بوشارب برحلة عكسية لامرأة وأولادها الراغبين في العودة إلى الجزائر.
قبل ذلك وفي سنة 1976، قام التونسي الناصر قطاري بتقديم واحد ما زال أفضل فيلم حققه لليوم وهو «السفراء»: دراما حول مهاجرين من مختلف دول المغرب العربي، وكيف أن مجاورتهم لعائلات وأسر فرنسية لديها عاداتها وثقافاتها، ليس بالأمر السهل مطلقاً.
قبله بعامين عرض الألماني رينر فرنر فاسبندر فيلماً عن المواجهة الصعبة ذاتها بين مهاجر من المغرب (الهادي بن سالم) والبيئة الألمانية. هو رجل أعجبت به امرأة فاتها الشباب (بردجت ميرا)، وواجهت وإياه مصاعب العيش معاً في جوّ عنصري متوقع. علي يشاركها الخوف من مستقبل؛ بل لديه مخاوف أخرى. هي تستطيع البقاء في وطنها، لكنه إن بقي معها أو بدونها سيبقى غريباً.
منذ ذلك الحين توالت تلك الأفلام التي تتحدث عن ألم الهجرة أو عن وقائع حقيقية ألمت بمهاجرين عرب في محيط أوروبي معقد.
قام بوشارب سنة 2006 بتحقيق فيلمه الجيد «أيام المجد» عن العرب الذين شاركوا الفرنسيين تحرير فرنسا من النازية، وتم تهميش مشاركتهم في ما بعد. ثم عرض سنة 2009 في «نهر لندن» ويحكي عن سنغالي وصل إلى لندن بعدما بلغه موت ابنه في تفجير إرهابي. يلتقي هناك بأم بريطانية خسرت ابنها في الحادثة ذاتها. لم يكن عن مشكلة الهجرة، لكن عن البيئة التي قد تفرز الحب والتفاهم أو الكراهية والبغضاء.
المخرج قتيبة الجنابي
بغداد التي لا تنسى
العراقي قتيبة الجنابي خص نفسه بأفلام ثلاثة تتحدث عن وضع لاجئ هارب من نظام عربي يلاحقه رجال ذلك النظام، وظلال تلك الفترة السابقة. أفضل تلك الأفلام «قصص العابرين» (2017)؛ كونه أنجز رؤية وأسلوب سرد خاصين به. عرض لذاكرة المخرج المرهقة لحياته في العراق، ثم بذلك الخوف الكبير الذي لاحقه عندما فرّ صوب أوروبا (حط في أكثر من بلد) بحثاً عن أمان صعب. وهو استكمل الثلاثية قبل عامين بفيلم «رجل من خشب»، طارحاً أن بطله ذاك تحول إلى شكل آدمي مؤلف من خشب هش بعدما استمر سعيه للبحث عن موطن آمن في بلاد لا ترغب فيه أو هرباً من فلول الأمس.
تلك الفلول لها وجود في فيلم سمير جمال الدين «بغداد في مخيلتي». مثل الجنابي، قام جمال الدين بتقديم أكثر من فيلم سابق (بينها «أوديسا عراقية») حول الشتات العراقي في بلدان الغرب، لكن في «بغداد في مخيلتي» (2019) سرد أوضاع عراقيين (وبعض العرب الآخرين) في مدينة لندن. مهاجرون أغلبهم طيبون مع مشاكل يتعرضون لها من فلول الماضي.
ما سبق وغيره يدلف بنا إلى فيلم كوثر بن هنية «الرجل الذي باع ظهره» (2020) الذي انتهج حكاية جديدة: سوري حط في بيروت ومنها إلى بروكسل، بعدما رضي بأن يبيع ظهره لفنان بلجيكي. ليس أن الحكاية برمتها خلت من مواقف غير قابلة للتصديق، لكن الفيلم سجل ـ في ما سجل ـ وجهاً آخر من وجوه هجرة صعبة تشبه اقتلاع شجرة تنمو في الصحراء، لزرعها في أرض شمالية باردة.