الحوت «بيلوجا»
من بين المشاهد التي تُلفت النظر في الحرب على أوكرانيا، هي تلك التي تنقل لنا تعلّق الناس بحيواناتهم المنزلية.
شاهدنا مواطنين يهربون عبر الحدود وهم يحملون ـ مع أمتعتهم القليلة ـ قطة أو كلباً يرأفون به رأفتهم بأطفالهم. كما نقل لنا التلفزيون، تقارير كثيرة عن نساء متقدمات في السن، رافضات مغادرة بيوتهن على الرغم من القصف والموت المحدق بهن؛ لأنهن لا يمكن أن يتركن البط والدجاجات وحصان المزرعة، تحت رحمة النيران والموت عطشاً.
أوكرانية مع كلبها
وفي عزّ الحرائق التي التهمت مئات الكيلومترات من غابات فرنسا، هذا الصيف، كان هناك مَن رفض إخلاءه من منزله ومزرعته، واختار البقاء مع حيواناته التي يربّيها، ومواجهة المصير نفسه. لقد أكل لقمته ولقمة عائلته بفضل تلك البقرات والماعز.
يبيع حليبهن ويصنع منه الألبان والأجبان ويعيش رغداً.
الحيوان مدلل في بلاد الحروب، وأكثر تدليلاً في البلاد الآمنة السعيدة. له شهادة ميلاد، وأطباؤه الذين يتابعون نموّه، ويسجلون مواعيد لقاحاته.
كما أن له أطعمته، نواديه وألعابه، ومسابقات جماله، وصالونات حلاقته، ومصممي أزيائه، ومقابره الخاصة، في حال ودّع الدنيا.
وعندها يبكيه أصحابه مثلما يبكون عزيزاً من الأهل وأفراد الأسرة. يتفرج اللاجئ الآتي من عندنا على الشابة الشقراء وهي تحتضن كلبها وتناغيه وتلاطفه، ويهزّ رأسه عجباً. يكاد لسان حاله يقول: «يا ليتني كنت أنا».
قبل أيام انشغلت فرنسا كلها بحوت أطلقوا عليه اسم «بيلوجا». لقد احتلت أخباره صدارة النشرات وعناوين الصحف. وسبب الاهتمام به أنه شوهد في مياه نهر السين، متسللاً إليها من خارج بيئته الطبيعية. ونظراً لأن البيئة الطبيعية لهذا النوع من الكائنات البحرية هي البحار والمحيطات الباردة، فقد انطلقت حملة لإنقاذ الحوت الذي كان في حالة حرجة، ونقله إلى شاطئ «كلفادوس»، شمال غربي البلاد؛ أي إعادته إلى بحر الشمال.
الحوت «بيلوجا»
تابع الملايين وقائع عملية الإنقاذ على الهواء. تم سحب الحوت، البالغ وزنه 800 كيلوغرام، بشبكة كبيرة ثم وُضع في الحوض الخلفي لشاحنة مبردة. وشارك في العملية 24 غواصاً، و10 أطباء بياطرة تناوبوا على فحصه ومراقبة وضعه الصحي، لكن حالة «بيلوجا» تدهورت، ومعها تدهورت آمال الفرنسيين.
وفي ساعة مبكرة من نهار قائظ، أعلنت بلدية «كلفادوس» في بيان حزين، عن نفوق الحوت. لقد اضطر الأطباء إلى ما يسمى بالموت الرحيم، لوقف عذاب الحيوان الذي ضلّ طريقه.
عشنا وهرمنا ونحن نسمع أن «الحياة قصيرة». وكم ستكون أجمل لو استوعبنا تلك العبارة، ونبذنا المنازعات والجري وراء التفاهات وانشغلنا قليلاً بما حولنا من طبيعة ساحرة، وأمواج زرقاء، ورمال ذهبية، ونخيل سامق، وحيوانات تشاركنا العيش، وأزهار تلوّن أيامنا، ويفوح شذاها في ليالينا.