لبيوت الله جماليتها النابعة من قدسيتها.. هي روح نابضة بذكر الله، وقلب لا يتوقف عن الذكر، زد على ذلك عمارتها عندما تكون قائمة على فن معماري يحاكي حضارتها وإرثها التاريخي. في بلدة المختارة اعالي الشوف اللبناني تجسيد لهذا التجدد المعماري الفريد من نوعه، نجده في مسجد «امير البيان» شكيب أرسلان الذي فاز، إلى جانب ستة مساجد عالمية، بجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد في ديسمبر 2021.
بني عام 1814 وأعيد بناؤه وتجديده عام 2016
يعد المسجد بمثابة رسالة سلام وتعايش معمارية، وأشبه بتصميم معماري فلسفي، وأقرب إلى لمسة أنسنة تستخدم التجريد الحديث لغة لإيصال رسالتها. ولموقع المسجد أهمية بالغة، فالمختارة بلدة التعايش المسيحي الإسلامي بدليل أن الزعيم اللبناني الراحل بشير جنبلاط، الذي بنى هذا المسجد عام 1814، شيّد كنيسة الدر للموارنة عام 1820. وقد أعاد القيادي السياسي اللبناني وليد جنبلاط بناء هذا المسجد من باب تعزيزه للتسامح والتفاعل مع سائر الطوائف التي يغتني بها لبنان.
تمثال كمال جنبلاط قريباً من المسجد
يقع المسجد على الطريق العام قرب مدخل «دار المختارة»، أو مقر الزعامة الجنبلاطية، وهو ملاصق لضريح الزعيم الشهيد كمال جنبلاط ويرتفع 815 متراً عن سطح البحر ويطل على جبل الباروك وعلى سائر الجبال والتلال والأودية في الشوف الأخضر صيفاً، وتتكلل أعالي قممه بردائها الأبيض شتاء.
افتتح وليد جنبلاط بناء هذا المسجد بحلته الجديدة في 18 سبتمبر 2016 بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل والدته مي أرسلان وبحضور مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان مطلقاً على المسجد اسم جده والد أمه الأمير شكيب أرسلان، الذي كان علماً من أعلام السياسة والفكر والأدب والشعر في لبنان والعالم العربي وقد عرف بـ«أمير البيان»، ولد عام 1869 وتوفي عام 1946.
ضريح كمال جنبلاط
في 17 ديسمبر 2021 فاز مسجد الأمير شكيب أرسلان، إلى جانب ستة مساجد في العالم، بجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد. وتم تكريم المساجد السبعة الفائزة بجوائز الدورة الثالثة، للفترة التي امتدت بين عامي 2017 و 2020، خلال حفل نظمته إدارة الجائزة في المدينة المنورة بحضور الأمير سلطان بن سلمان المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، رئيس مجلس أمناء جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد، والأمير فيصل بن سلمان أمير منطقة المدينة المنورة، ومؤسس الجائزة الشيخ عبد اللطيف بن أحمد الفوزان، وبمشاركة نخبة من المعماريين والخبراء والمختصين من مختلف دول العالم.
وجاء فوز المساجد السبعة من بين 27 مسجداً ضمن القائمة القصيرة التي تنافست من مجموع 201 مسجد من مساجد الدول التي تم ترشيحها للجائزة من قبل 43 دولة في 3 قارات.
جانب من واجهة المسجد يعلو سطحه نموذجان هندسان فولاذيان
وكان جنبلاط، طلب من المهندسين المعماريين اللبنانيين مكرم القاضي وزياد جمال الدين عام 2015 وضع تصميم هندسي لإعادة تشييد هذا المسجد في مكانه الراهن فما كان منهما إلا أن صمما البناء وأنجزا العمران في أقل من عامين. وهذان المعماريان يعملان بين بيروت ونيويورك إلى جانب تدريس مواد عدة في أكثر من جامعة أمريكية بينها مادة متعلقة بتصميم المساجد في القرن الحادي والعشرين ووضع تصور لهندسة معمارية جديدة للمساجد.
نجد عند مدخل المسجد كلمة «الإنسان»، وهو يقسم إلى قسمين:
- المبنى القديم الذي تم ترميمه والبناء الفولاذي الخارجي الذي أضيف عليه والمصوب باتجاه مكة المكرمة.
- مبنى المسجد من طابق واحد ويتألف من قاعتي صلاة إحداهما للرجال والثانية للنساء، فضلاً عن المحراب والفتحة في السقف التي تظهر المئذنة وكلمة «الله» الفولاذية عليها.
المسجد من الأمام حيث النافورة
ويتميز المسجد بسجادته التي يشاهد عليها المصلون تصويراً مرئياً للآذان وهي طريقة جديدة لفن الخط المصنوع على شكل نبضات القلب.
وأمام المسجد موقف سيارات تم تحويله إلى ساحة فيها نافورة مياه وشجرة تين وإلى جانبها شجرة زيتون.
وحسب المعماريين القاضي وجمال الدين، فإن هذا المسجد نموذج بديل للمساجد الأخرى التقليدية مما يعطيه فرادته من حيث مزجه المزايا القديمة بالمزايا الحديثة في الهندسة والعمارة.
وهما يستشهدان بالمفكر الإسلامي محمد اركون الذي برهن من خلال كتابه «الأنسنة والإسلام» تأثير الديانة الإسلامية في حركة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك الإبقاء بأشكال هندسية مجردة على الشكل المكعب والقبة والمئذنة العمودية، إلى جانب المحراب الذي يشبه المرآة بما يتيح الصلاة باتجاه القبلة، وبما يظهر اتجاهات أخرى في الوقت نفسه. ومن هذه الأمثلة أيضاً طبيعة بناء الفناء الخارجي وبهو المسجد وسقفه الذي تظهر من خلاله المئذنة وكلمة الله واسم الجلالة عليها، ما يوحي بحقيقة العلاقة بين الداخل والخارج. وكذلك الحفاظ على تقليد الخط الإسلامي برسوم على الجدران بعبارتي «اقرأ» و«هو الأول والآخر والظاهر والباطن».
أمام المسجد الشيخ الأزهري بسيوني عبد الحميد
ويؤكد إمام المسجد الشيخ الأزهري بسيوني عبد الحميد أن لا مثيل لمسجد شكيب أرسلان من حيث تصميمه الفريد، مشيراً إلى أن كلمتي «الإنسان» عند المدخل واسم الجلالة على المئذنة هما من الصفائح الفولاذية الرقيقة، والمقصود بهما أنه يجب أن تكون العلاقة بين الله والإنسان ممتدة.
أما المئذنة على السطح، حسب عبد الحميد، فهي على شكل فراغ، في إشارة إلى الطبيعة غير الملموسة للخالق، مع تقديم طريقة جديدة للنظر إلى التخطيط كعنصر هيكلي لا يتجزأ من تصميم المسجد في أسفل الهيكل. وتظهر السجادة المطبوعة تصويراً مرئياً للآذان وهي طريقة جديدة لفن الخط المصنوع على شكل نبضات القلب. أما المحراب فهو فولاذي مقاوم للصدأ وعبارة عن مرآة عاكسة باتجاه مكة المكرمة كذلك لوجهات نظر متعددة في إشارة إلى الطبيعة الشاملة للدين الإسلامي وإلى صورة عاكسة من أكثر من اتجاه للاختلاف والتنوع.
وعن عبارة «هو الأول والآخر والظاهر والباطن»، يوضح عبد الحميد أنها دلالة على أن الله لا يحكم على أحد من ظاهره بل ينظر إلى قلبه. أما بخصوص شجرتي التين والزيتون أمام المسجد يقول عبد الحميد لـ «كل الأسرة» إن فيهما إشارة إلى أنهما مباركتان، وقد ذكرتا في القرآن الكريم بقوله تبارك وتعالى «والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، وأيضا ذكرها الله في سورة «المؤمنون»؛ حيث قال «وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين».
وقال سبحانه وتعالى في سورة «النور»، «يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور». وعن النافورة يشير إلى أن الماء هو أصل الحياة، فالله عز وجل يقول في القرآن الكريم: «وجعلنا من الماء كل شيء حي».