زرت القاهرة بمناسبة معرض الكتاب. والقاهرة هي الشوارع العريقة ومقاهي الأزقة والذكريات الماضية والأغنيات ولطافة الناس وسندويشات الفول والزحام والغبار والمآذن الصادحة.
مدينة أعرفها ولا أملّ منها ولا فيها. زرتها كثيراً وأعود هذه المرة بذكرى تدفئ القلب. دعاني روائي كريم إلى بيته للتعرف إلى أسرته. والأسرة هي زوجته فحسب لأن ابنتهما الوحيدة تزوجت وتقيم في الخارج.
وامتد بنا الحديث، قبل العشاء، حتى وصلنا إلى محتويات طبق الكُشري، الأكلة المصرية الشعبية الشهيرة. قام الروائي إلى مكتبته وعاد ومعه دفتر كبير فيه وصفات مختلف الأكلات التي يحبها، مكتوبة بخط زوجته. كانت الزوجة تتحرك بشيء من الصعوبة وفهمت منها أنها خضعت لجراحة في صدرها لاستئصال ورم خبيث. يقول زوجها إنها، في وقت من الأوقات، تصورت أنها النهاية. سيقضي عليها المرض وستتركه وحيداً. وهي تعرف أنه لا يحب أكل السوق، لذلك جلست تسجّل له، وهي على سرير المرض، الوصفات التي يحبها وتشرح له خطوات تحضيرها.
أتوقف هنا لأنقل لكم ما حكاه لي مضيفي الكريم. قال إنه تعرف إلى زوجته حين كانا زميلين في كلية الهندسة، قبل خمسين عاماً. أحبها وأحبته وقررا الزواج. ولم يكن ارتباطهما سهلاً لأنهما من دينين مختلفين. لكنهما تغلبا على الصعاب وواجها أمواج الحياة يداً بيد.
ترك الزوج مهنته، في مرحلة من المراحل، وتفرّغ لكتابة الروايات وللعمل في جمعيات إنسانية. كان قد اكتفى مادياً ولا يريد أن يكسب أكثر مما يحتاج. ملابس نظيفة ولقمة طيبة ومكتبة عامرة وبيت يغمره الحب والموسيقى. كم تكون العيشة أبسط حين نتخلى عن الزوائد!
تناولت دفتر الوصفات وبدأت بتقليبه والاطلاع على محتوياته. لم أتوقف عند الكُشري بل عند وصفة الفتة على الطريقة المصرية. خبز ولبن ورز ودجاج وصلصة طماطم ومكسرات لتزيين الوجه. لاحظت أن ربة البيت رسمت في الصفحة المقابلة مخططاً تشرح فيه لزوجها كيف يرتب طبقات الفتة.
خافت عليه أن يخلط الحابل بالنابل فيضيع المذاق المطلوب. غادرت شقتهما الوادعة ولم يغادراني. لقد رأفت بهما السماء فتغلبت هي على المرض وما زال هو يأكل من طبخها ويتفرج على صور حفيدتيه ويكتب الروايات.
ولو سئلت اليوم ما هو الحب فلن أجد له تعريفاً أفضل من أنه وصفة طعام مكتوبة للحبيب بخط يد الحبيبة.