27 يوليو 2020

إنعام كجه جي تكتب: والبقدونس من حديقتها

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

إنعام كجه جي تكتب: والبقدونس من حديقتها

قبل يومين كنت أتفرج في التلفزيون على تقرير حول النجاح المدهش الذي تحققه طالبات سوريات صغيرات مهاجرات إلى ألمانيا. أخذ آباء وأمهات أطفالهم وهربوا من جحيم الحرب. ركبوا زوارق الموت ولم يبالوا. هل يخاف الغريق من البلل؟ بعضهم تحول إلى وليمة لأعشاب البحر، لكن من نجا ووصل بر الأمان وجد نفسه أمام تحدٍ عظيم. سيكون عليه أن يواجه مجتمعًا مختلفًا وثقافة مغايرة وعادات لا تشبه تلك التي تربى عليها. 

في التلفزيون، دخلت الكاميرا شقة عائلة مهاجرة تمكنت ابنتها من الحصول على أعلى العلامات في امتحان الثانوية العامة. تعلمت البنت اللغة الألمانية بسرعة قياسية وتفوقت في الدروس كلها. ستدخل كلية الطب لكي تحقق حلمها في التخصص بجراحة القلب. صارت فخرًا لعائلتها وأملًا في مستقبل جميل ورفاهية منتظرة. في فرنسا، كانوا يتحدثون عن مهاجرة في الخامسة عشرة حققت إنجازًا دراسيًا لافتًا. بحثت عن رقمها وعنوان مدرستها وكان من محاسن الصدف أنها تقيم على مسافة 300 متر من المبنى الذي أقيم فيه. منطقة تنتهي عندها الأبراج العالية التي شيدت في السبعينات لتبقى بضعة بيوت قديمة لم تتعرض للهدم. كأنني انتقلت من المدينة إلى القرية. حجرات عتيقة متشابهة ومتجاورة كالأقفاص، من طابق واحد، كأنها كانت مخازن أو زرائب أو ثكنات عسكرية. طرقت بابهم من دون موعد مسبق. وفتح لي الأب الباب وجاءت الأم ترحب بي. سألتهما عن البنت المتفوقة فتحدثا بافتخار عنها.أخبراني أنها لم تكن تعرف كيف تقول «بونجور» بالفرنسية والآن صارت تتحدث بلغة هذه البلاد «مثل البلبل». إنها تترجم لوالديها عناوين الصحف ونشرات الأخبار وكل الأوراق الإدارية التي تصل بالبريد، وهي التي تنجز كل المعاملات للأسرة الصغيرة، كالتسجيل في المدارس وتقديم طلبات الإقامة وملء ملفات الضمان الصحي والاجتماعي. 

ولمن لا يعرف فإن فرنسا، وليست مصر، بطلة العالم في سباق البيروقراطية والوثائق الإدارية والأختام الرسمية. 
في حوش البيت حديقة صغيرة بحجم الكف. مزروعة بنباتات عطرية وبعض الخضار. قامت الأم وقطفت أعواداً من البقدونس والنعناع والبصل الأخضر. غسلتها وفرمتها وهي جالسة معنا. عصرت عليها ليمونة وسكبت قطرات من زيت الزيتون. رشت الملح وقدمت لي ألذ طبق تبولة ذقته في حياتي. ليس مهمًا أن تخلو التبولة من الطماطم. قالت السيدة المهاجرة إنها تستبقي الطماطم الغالية لطبخات المرق. زادت أسعار الخضار بسبب الوباء وتوقف الاستيراد من المغرب وإسبانيا. 

ثم جاءت البنت وسلمت علي بتحية من رأسها وجلست مثل أيقونة، بيني وبينها متر كما تقتضي التعليمات. فاحت منها رائحة صابون حلب وعرفت أنها خارجة من الحمام للتو. أسبلت عينيها وأجابت على أسئلتي بصوت هامس. حدثتني عن رفيقاتها في المدرسة وعن تفوقها في الرياضيات بشكل خاص. كانت تشبه السيدة العذراء بوشاحها الأزرق الذي تربطه حول وجهها. هل ترتدي الوشاح في المدرسة. قالت إن الحجاب ممنوع لذلك تخلعه داخل الصف. وأضافت ببلاغة كبيرة على سنها: «خشوعي في قلبي». وهنا كدت أقترب منها لتقبيل رأسها لولا أن «كورونا» تفرض علينا شرط التباعد. قلت لها إنها سفيرة حقيقية لسوريا في باريس فابتسمت وتساءلت مندهشة: «أنا؟».