بعض الناس يؤدون العبادات، ويلتزمون أخلاقياً في رمضان، ويحرصون على الحلال والحرام طوال الشهر الفضيل.. فإذا ما انتهى شهر التوبة والمغفرة عادوا إلى حياتهم الطبيعية، وما فيها من معاصٍ وذنوب، وإهمال للعبادات والأخلاق الكريمة التي عاشوا عليها في رمضان.
فكيف يتغلب المسلم على هذا السلوك الذي تعوّد عليه البعض، ويحرمه عطاءات الشهر الكريم؟ وكيف يحافظ على مكتسبات رمضان لتبقى معه طوال العام؟
عطاء شهر رمضان لا ينقطع
بداية، يؤكد د. محمد الضويني، وكيل الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء، أن شهر رمضان ينبغي أن يكون مرحلة فارقة في حياة الإنسان، ومحطة مهمة جداً في حياته، لتكون بعد الشهر الفضيل مختلفة تماماً عن حياته قبلها، ويقول «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبشرنا بأهمّ مكتسبات الصيام فيقول «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»، وهذا يعني أن كل من يصوم، ويلتزم بآداب الصوم وأخلاقياته، ويؤدي ما عليه من عبادات دينية، والتزامات حياتية، ويفعل ما يرضي الله ورسوله عنه في رمضان؛ يخرج من الشهر الكريم طاهراً نقياً بعد أن تخلص من الذنوب والآثام.
ومن هنا لا ينبغي أن يفرط الإنسان في هذه المكتسبات، ويلعب الشيطان بعقله من جديد، ويلوّث نفسه بالمعاصي والذنوب، والعاقل من الناس لا يفعل ذلك بالتأكيد».
رمضان محطة سنوية للمراجعة والتصحيح.. فلا تُفرطوا في مكتسباته الكثيرة
ويضيف «لذلك نحذّر من إهمال العبادات والطاعات ومكارم الأخلاق بعد انتهاء شهر رمضان المبارك، وعلى الجميع أن يدرك أن هذا الشهر الفضيل الذي اختصه الله بمزيد من الفضائل، ليس موسماً للطاعة والعبادة، ثم تنتهي علاقة المسلم بذلك بمجرد الخروج منه، فعطاء الشهر الكريم يرسم للإنسان طريق الهداية والاستقامة؛ لتظل مكارم الأخلاق ملازمة له طوال أيام وشهور السنة، وموجهة لحياته، الخاصة والعامة، في كل مكان يذهب إليه أو يتواجد فيه، وضابطة للسلوك، ومهذبة للغرائز والانفعالات في كل الأوقات».
ويبشر العالم الأزهري كل من يعيش رمضان في عبادة وتقوى وورع، مخلصاً في عباداته وعطائه الخيري والإنساني، مقاوماً لنوازع الشياطين، باستمراره على هذه الحالة الإيمانية بعد رمضان.. أمّا من تعامل مع رمضان على أنه محطة طارئة في حياته، فسوف يُهدر بسهولة ما اكتسبه من أجر وثواب وفضائل خلال الشهر الكريم.
الشهر الفضيل.. محطة سنوية للمراجعة
ويرفض د. الضويني التعامل مع شهر رمضان على أنه مجرد موسم للعبادة، ويبين «لقد أراد الله بهذا الشهر أن يجعل للإنسان محطة سنوية يراجع فيها نفسه، ويتخلص فيها من آثامه، ويعود من خلالها إلى طريق الحق والخير، والعاقل من الناس هو الذي يستفيد من هذه الفرصة لتتراكم أعماله الخيرية، وتتضاعف حسناته، فيكون في عطاء دائم ومكاسب لا تتوقف من فضائل هذا الشهر الكريم. لذلك ننصح كل إنسان بالحرص على العبادات والطاعات بعد رمضان، والاستمرار في حالة الالتزام الأخلاقي التي عاشها طوال الشهر الكريم، ليكون على طريق الهداية والاستقامة طوال العام. وكل إنسان عاقل يدرك أنه من الخطأ أن يفرط في مكتسبات هذا الشهر الكريم الذي تتعدد فضائله، وتتنوع مكاسبه، فكل من صام رمضان، وأدّى ما عليه من واجبات دينية وإنسانية، وأخلص في عبادته جدير بأن يكون من الذين وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغفران ذنوبهم وتخليصهم من آثامهم».
العودة إلى الحياة العبثية جحود
وهنا يوضح د. الضويني الفارق بين إنسان قد يقع في ذنب بعد رمضان من دون قصد منه، وهذا الإنسان يظل في دائرة العفو الإلهي طالما تنبه لخطئه، وعاد إلى طريق الهداية.. وإنسان آخر عاد بعد انتهاء رمضان إلى الحياة العبثية التي كان يعيشها قبل رمضان، معتقداً أن موسم الطاعة والعبادة قد انتهى، فهذا المنطق الخاطئ يجلب للإنسان غضب الله، وعقابه، ويحرمه مكتسبات رمضان، والفيصل هنا بين الصنفين من الناس هو (النيّة)، فكل إنسان يحاسب على نواياه، وما تسوّل له نفسه من استحلال الحرام، أو تبرير سلوكاته وفقاً لمفهومه القاصر للعبادة والطاعة.
ويواصل «فضائل رمضان كثيرة، ومكتسبات الشهر الفضيل وما فيه من عبادات وتوبة ومغفرة طوال الشهر، وفي ليلة القدر والعشر الأواخر من رمضان، والتفريط في هذه المكاسب العظيمة، وهذا الفضل الكبير من الله «شكل من الجحود الذي لا يليق بعاقل»، فكل من يعود إلى المعاصي بعد رمضان هو إنسان جاحد لعطاء الله له، ناكر لما أنعم الله عليه به».
من هنا يطالب وكيل الأزهر كل مسلم بحماية أخلاقيات رمضان من الاندثار، والحفاظ عليها بكل ما يستطيع؛ لتستمر معه طوال شهور السنة، حتى يستقبل رمضان القادم- إن كتب الله له العمر- فيتضاعف أجره وثوابه، ويضيف لحياته المزيد من العطاء الإلهي.
أحبّ الأعمال إلى الله أدومها
عالم الفتوى الأزهري د. عطية لاشين، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو لجنة الفتوى المركزية بالأزهر، يؤكد أن «فتور العبادة بعد رمضان» شعور يسيطر على سلوك الكثيرين، ربما لما بذلوه من جهد بدني ونفسي في رمضان، وربما لأن البعض يتعامل مع الشهر الكريم على أنه موسم للعبادة يتعاظم أجر الإنسان فيه عن بقية شهور السنة، وينصح «ينبغي أن نحسن الظن بمن تعودوا على هذا السلوك، ونوجّههم بالحسنى، ونوضح لهم ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من مداومة على العبادات والطاعات، في رمضان وفي غير رمضان، حتى نأخذ بأياديهم إلى طريق الاستقامة».
ويضيف «نعلم أن بعض الناس تعودوا على أداء العبادات والطاعات وأعمال الخير بإخلاص طوال شهر رمضان المبارك، فإذا ما انقضى الشهر الفضيل عادوا إلى حياتهم الطبيعية التي تعودوا عليها طوال شهور السنة، بما فيها من سلوكات خاطئة، وتجاوزات تبتعد بهم عن أخلاقيات دينهم، ولكن بالتوجيه الديني الصحيح، وبإحسان الظن بهم، سيصححون مسيرتهم، ويدركون أن العبادة في غير رمضان مطلوبة من المسلم، مثل العبادة في رمضان تماماً، بل قد تكون المداومة عليها في غير رمضان أكثر أجراً، بخاصة أن مصادر اللهو عن العبادات والطاعات تكون أكثر شيوعاً وانتشاراً».
عطاء عبادات وفرائض الإسلام لا ينقطع.. فداوموا على العبادات وأعمال الخير
ويؤكد د. لاشين أن المداومة على العبادة بعد رمضان من شيمة الأتقياء الذين يدركون حقائق دينهم، وما يرشدهم إليه من خير «شهر رمضان هدية ونعمة من الله سبحانه وتعالى تستحق الشكر، لا سيما لمَن اجتهد في رمضان، وبذل وِسعه ليكون من الفائزين.. والشكر لله على إتمام العبادة ليس باللسان فقط؛ وإنما بالقلب والأقوال والأعمال».
ويوضح عالم الفتوى الأزهري، أن من علامات قبول الأعمال الصالحة في رمضان «المداومة عليها بعد رمضان»، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أحبُّ العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قلَّ»، ولذلك فالمسلم الواعي الصادق في عباداته وطاعاته يداوم على العبادات والطاعات بعد رمضان.
الصلاة في رمضان فقط.. سلوك عجيب
ويتعجب د. لاشين من سلوكات بعض الناس الذين يحرصون على أداء الصلاة في رمضان، وينصرفون عنها بعد رمضان «هذا سلوك عجيب لبعض الناس، فالصلاة مفروضة على الإنسان ومطلوبة منه يومياً طوال العام، حتى ولو كان عاجزاً لا يستطيع القيام ولا السجود، وقد فصّل الفقهاء كيفية أداء الصلوات لمن يعجز عن القيام والقعود والسجود لكي يفي بهذه الفريضة الواجبة وهي عمود الإسلام».
ويرى عالم الفتوى الأزهري أن إهمال الصلاة بعد رمضان سلوك يكشف عن خلل في منظومة الثقافة الإسلامية، كما يكشف عن تربية دينية خاطئة، فالصلاة فريضة لا ترتبط برمضان، ومن يصلّي في رمضان فقط، مثله كمثل المرأة التي ترتدي الحجاب في رمضان وتتخلص منه بعد الانتهاء من شهر الرحمة والمغفرة «هذا السلوك يؤكد أن مقاصد العبادات والالتزام الديني غائبة عن بعض الناس».
ويحمل د. لاشين الآباء والأمهّات مسؤولية حالة الانفصام الديني في سلوك أولادهم، ويقول «إهمال العبادات عموماً، قضية تربوية أخلاقية قبل أن تكون قضية دينية، فكثير من الآباء والأمهات لا تشغلهم صلاة أبنائهم بقدر ما يشغلهم استذكار دروسهم، وهناك الكثير من الآباء والأمهات الذين يطاردون أبناءهم معظم ساعات الليل والنهار لكي يركزوا في تحصيل دروسهم وتحقيق تفوق دراسي شكلي، ولا ينتبهون إلى خطورة إهمال أبنائهم للعبادات الإسلامية، بخاصة الصلاة».
ويوضح مكاسب الصلاة وأهميتها للإنسان في كل وقت وتحت أية ظروف، فيقول «الصلاة عبادة لها أهداف دينية واجتماعية وأخلاقية ونفسية، والحكمة من تكرارها خمس مرات يومياً أن تكون «حماماً» روحياً للمسلم يتطهر بها من كل سلوك شاذ وغريب يفعله طوال يومه، وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديثه الشريف عن الصلاة: «أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟»، قالوا له: لا. قال: «كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا».
شهر رمضان.. نقطة انطلاق
من جهته، يشير د. أسامة الحديدي، مدير مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية، إلى أن شهر رمضان ليس مجرد موسم للعبادة والطاعة، فإذا ما انتهى رمضان انتهى كل شيء «شهر رمضان يجب أن يكون «حركة تصحيح لمسيرة المسلم» ونقطة انطلاق له نحو الأفضل من العبادة والسلوك، ومن يتعامل مع رمضان على أنه مرحلة وتنتهي مخطئ، ولا يدرك مقاصد العبادات والطاعات».
ويضيف «المعبود واحد، وربّ رمضان هو رب بقية الشهور والأيام، ولذلك فرمضان هو مدرسة التغيير، نستفيد منه لما بعده، نُغيّر فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا، ومن أقبل على الله مخلصاً أقبل الله عليه، قال تعالى: «.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..»، ومن علامات قبول العبادة والطاعات ظهور أثرها في السلوك والعمل، وحسن معاملة الخلق في كل شيء، فمن وجد ثمرة عمله في خلقه، فقد حقق غاية من أهم غايات الطاعة والعبادة. فمثلاً.. الصلاة واجبة في رمضان وفي غيره، فلا يليق بالمسلم أن يترك الصلاة بعد رمضان، ولا أن يترك الجماعات، فلا تكن من الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان».
رمضان «نقطة انطلاق نحو الأفضل» وحركة تصحيح لمسيرة المسلم فلا تُضيّعوا الفرصة
ويوضح مدير مركز الفتوى بالأزهر، أن من علامات قبول الأعمال الصالحة في رمضان أن تستمر عليها بعده، فالمداومة على الصالحات سنّة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أخبرتنا السيدة عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله كان «إذا عمل شيئاً أثبته».. ويبيّن «على كل مسلم حريص على جني مكاسب رمضان أن يداوم على العبادة بعد رمضان، فقد كان من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم المداومة على الأعمال الصالحة، ومن علامات رضا الله عن الإنسان وقبول العبادات والطاعات منه، أن يحبب الطاعة إلى قلبه فتأنس بها، ويطمئن إليها، حتى يكون ممن قال الله عز وجلّ عنهم:«الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»، وكره المعصية علامة من علامات القبول عند الله، حيث يقول سبحانه وتعالى: «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ».
وفي النهاية يحذر د. الحديدي من سلوك هؤلاء الذين صاموا وصلّوا وزكّوا في رمضان، وبعد انقضاء الشهر الكريم عادوا إلى حياتهم الطبيعية التي ألفوها، وما فيها من مخالفات وتجاوزات، فيخوضون في الأعراض، ويتتبعون العورات، وتمتلئ قلوبهم بالحقد والحسد على الآخرين.. ويقول «بالتأكيد هؤلاء لم يستفيدوا شيئاً من رمضان».
اقرأ أيضاً: د. علي جمعة: الغيبة والنميمة «رذيلتان» يهدران أجر وثواب الصوم