وسط ركام منزلها المدمّر في قطاع غزة، عادت سيدة فلسطينية تبحث عن عصافيرها حتى ظفرت بها، وقالت «إنها تشعر بالفزع أكثر من الإنسان»، وحملتها معها لكي تعتني بها وتقدم لها الطعام والشراب حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لا يترك الإسلام كائناً حياً من دون أن يحميه، حتى ولو كان عديم الفائدة، كما لا يشجع الإسلام أتباعه على الإساءة للحيوان، أو العدوان عليه، أو الاستهانة به، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالعقاب الإلهي الرادع لامرأة حبست هرّة، لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فاستحقت أن تدخل النار.
وقد كشفت دراسة أزهرية حديثة عن تزايد السلوكات الخاطئة في التعامل مع الحيوان، وطالب الباحث محمد عبد المعطي بنشر ثقافة حماية حقوق الحيوان في أنظمة التعليم العربية، حتى يتربى صغارنا على الرحمة بالحيوان، والإحسان إليه.
الرفق بالحيوان خلق إسلامي
في البداية، يشيد العالم الأزهري د.نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، بسلوك هذه السيدة المكلومة والتي تعيش مأساة حقيقية بسبب هدم بيتها، وتدمير مقومات حياتها، ويقول «المأساة التي تعيشها هذه السيدة لم تنسِها حقوق عصافيرها والبحث عنها لإنقاذها من الموت، وهو شعور إنساني راق غرسه الإسلام بتعاليمه وآدابه في نفس كل مسلم. فالإسلام كفل لكل الحيوانات والطيور حقوقها، فلا يجوز العدوان على حيوان من الحيوانات التي لا تؤكل إلا إذا كان ضاراً بالإنسان، ومهدداً لحياته، وحتى الحيوانات التي تؤكل أمرنا الإسلام بالتعامل معها برفق وإنسانية أثناء ذبحها، وتجهيزها للطعام.. ومن هنا يرفض الإسلام ويدين كل صور القسوة ضد الحيوانات التي شاعت في بعض بلادنا العربية على أيدي الصغار والكبار».
يجب التعامل مع مخلوقات الله وفق الضوابط والقواعد التي حددها الشرع الحنيف
ويضيف «الرفق بالحيوان خُلق إسلامي، والعدوان على حيوان بالقتل من دون أن يكون مما يحلّ أكله حرام، إلا إذا كان هذا الحيوان ضاراً بالمجتمع، ويهدد حياة الإنسان، أو يضر بالبيئة، وفق الشروط والضوابط التي حددها علماء الإسلام، والتي تجسد رحمة شريعتنا بكل مخلوقات الله، خاصة تلك المخلوقات النافعة والتي سخّرها الله لخدمة الإنسان والبيئة التي نعيش فيها».
ويوضح د. واصل أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً عبثاً، أو عشوائياً، فكل مخلوق له دور ورسالة في هذا الكون، وهناك حشرات وطيور قد نراها نحن بلا قيمة، وهي تحقق منافع كبيرة للبيئة، وتحقق التوازن البيئي الذي يسعى إليه العالم الآن. لذلك لا يجوز لإنسان قتل ما لا يراه مفيداً له، بل يجب التعامل مع مخلوقات الله وفق الضوابط والقواعد التي حددها الشرع الحنيف، وهي قواعد تتفق تماماً، بل تتفوق على ما اتفق عليه علماء وخبراء البيئة في العالم، فالهرّة (القطة)، لها دور ورسالة، والكلب، والطيور المتنوعة.. وغير ذلك، لكل منها رسالة، ويجب احترام إرادة الله في كونه، وفلسفته في خلقه.
القسوة مع الحيوان.. جهل بتعاليم الإسلام
ويرى د. واصل أن شيوع صور القسوة في التعامل مع الحيوان في بعض بلداننا العربية يرجع لثقافة خاطئة، وجهل بتعاليم وأخلاق الإسلام، وهذا يفرض علينا مواجهة هذه السلوكات الخاطئة التي تجلب للإنسان غضب الله، وعقابه.. ويقول «الإسلام فرض علينا الرحمة في التعامل مع المخلوقات الضعيفة، خاصة الحيوانات الأليفة، كما فرض علينا أسلوباً راقياً رحيماً مع الحيوان في كل تعامل معه، حتى عند ذبحه، ولو كان هذا الحيوان قوياً شرساً».
ويؤكد يؤكد مفتي مصر الأسبق، أن تعاليم ديننا حافلة بالتوجيهات التي تجسد كل صور وأساليب الرحمة والرقي السلوكي في التعامل مع الحيوان، وفي القرآن الكريم نصوص تحث الإنسان على الرفق بالحيوان والانتفاع به وفق ما حدد الخالق، كما علّمنا رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، أدب التعامل مع المخلوقات الضعيفة من الحيوانات، خاصة ما يستأنس منها، ويملكه الناس، ويستخدمونه، مثل: الأنعام، والخيل، والبغال، والحمير، والطيور، وما لا يملك منها مثل القطط والكلاب.
وقد جاءت أحاديث عدة تحث على الرفق بالحيوان، وتحذّر من القسوة في التعامل معه، ومن بين هذه الأحاديث: «عُذبت امرأة في هرّة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»، و«الخشاش» حشرات الأرض ونحوها، وحديث: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببعير قد لصق بطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة»، وحديث: «في كل كبد رطبة أجر». وحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرِح ذبيحته».
نشر الوعي وسنّ تشريعات لحماية الحيوانات
من جهته، أشاد د. علي عثمان شحاتة، رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، بسلوك السيدة الفلسطينية التي لم تمنعها المأساة التي تعيشها من البحث عن طيورها، ومحاولة انقاذها من الموت، وهذا هو سلوك المسلم دائماً، ويبين أن «الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية للحيوان تؤكد عظمة ديننا وتفوقه على كل ما جاءت به الحضارة الحديثة، وقررته منظمات وجمعيات حقوق الحيوان في العالم من مبادئ تكفل للحيوان حقوقه، وترقى بأسلوب التعامل معه. فالحيوان في فلسفة الإسلام كائن حي خلقه الله الذي خلق الإنسان، وخلق كل شيء في هذا الكون، والإسلام له قيمه وتعاليمه الراسخة في تعامل الإنسان مع الحيوان والجماد، فلا تجوز إساءة استخدام أي شيء من مخلوقات الله، ومن يفعل ذلك يكن خارجاً على تعاليم الإسلام، ويستحق ما يتناسب مع جرمه من عقوبة، حتى لا يكرر ذلك، وحتى يرتدع غيره ولا يفعل مثل ما فعل».
ويوضح د. علي عثمان شحاتة، أن الرحمة بالحيوان أو الرقيّ السلوكي في التعامل معه، له صور كثيرة حثت عليها شريعتنا الغراء، حيث نهى الإسلام وحذّر من الإساءة للحيوان والقسوة عليه وتعذيبه بأي شكل من الأشكال. لذلك يطالب أستاذ الثقافة الإسلامية بنشر الوعي السلوكي بين البسطاء بحقوق الحيوانات، وسنّ تشريعات تجرّم كل عدوان على الحيوان والإساءة إليه بأي شكل من أشكال الإساءة.
حقوق الحيوان مكفولة في ديننا الحنيف
أما د. مجدي عاشور، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية والمستشار الأكاديمي لمفتي مصر، فيثمّن هو الآخر سلوك هذه السيدة الفلسطينية، ويؤكد أن القيم الإنسانية النبيلة تولد من رحم المعاناة.
ويؤكد «الرحمة والرفق بالحيوان سلوك يؤكد رقيّ الإنسان وتحضّره، وإذا كان السلوك العنيف مع الحيوان يجسد ثقافة تنتشر بين كثير من البسطاء الذين يتعاملون يومياً مع الحيوانات في حقولنا وشوارعنا، ولم تعد النصائح التوجيهات الدينية تؤثر فيهم.. فلا ينبغي أن يكون هذا السلوك شائعاً بين المثقفين والمتعلمين الذين يدركون قيمة الحيوان في حياتنا».
ويشدد أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية على رفض الإسلام لكل سلوك عنيف مع الحيوان الأليف، وغير الضار بالإنسان «من جوانب عظمة شريعتنا الإسلامية انها كفلت للحيوان حقوقه، كما فعلت مع الإنسان، وحرّمت عليه، وهو ذو عقل ووعي، أن يتعامل بعبث وعشوائية مع مخلوقات الله المحيطة به، ولذلك لم تُبح شريعتنا إلا قتل الحيوان الضار الذي يشكل خطراً على حياة الإنسان، أو كان هذا الحيوان مما أباح الله أكل لحمه، والإنسان في حاجة إليه، فيذبح ذبحاً شرعياً تستخدم فيه أيضاً كل مظاهر الرحمة والشفقة».
الحيوانات نعمة كبرى وواجب الإنسان الحريص على إرضاء ربه أن يحسن التعامل مع هذه النعمة
ويضيف «حقوق الحيوان ومظاهر رعايته تتفوق بعطائها الحضاري ورقيّها في التعامل الإنساني مع الحيوان على كل ما قررته الأنظمة الحديثة، حيث وفرت للحيوان رعاية تفوق كثيراً ما تقوم به أو تتطلع اليه جمعيات الرفق بالحيوان في الدول الغربية، والإسلام لا يتعامل مع الحيوانات على أنها مخلوقات دونية يحق للإنسان العبث واللهو بها، كما يحلو له، بل غرس ديننا قيمة الرحمة بالحيوان في نفس المسلم، من خلال النصوص القرآنية التي جاءت لتخبرنا أن الحيوانات نعمة كبرى أنعم بها سبحانه على الإنسان، ولذلك، فإن واجب الإنسان العاقل الحريص على إرضاء ربه أن يحسن التعامل مع هذه النعمة، وأن يشكر ربه عليها، ولا يقسو عليها، ويعذبها بغير حق. وكما حثنا خالق الكون على الرفق بالحيوان، وشكر الله على تسخيره لخدمتنا وتذليل مصاعب الحياة لنا، حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على التخلق بكل صور الرحمة في التعامل مع الحيوان، وحذّرنا من القسوة عليه، أو إضاعته وإهماله، منذراً بوعيد شديد لمن يقترف شيئاً من هذه الأعمال، ووعد المؤمن الرحيم بالحيوان بجزيل الأجر والثواب عند الله على إحسانه وعطفه على الحيوانات».
وينتهي د.عاشور بالتشديد على ضرورة نشر الوعي الديني بحقوق الحيوان بين الصغار والأجيال الجديدة.. مشيراً إلى أن ضعف الوازع الديني وغياب الثقافة الإسلامية والسلوك الحضاري الذي ربّانا عليه الإسلام، هو الذي أهدر حقوق الحيوانات.. ولذلك نحن في أمسّ الحاجة الآن الى العودة إلى تعاليم ديننا لتحكم سلوكنا اليومي في التعامل كبشر مع بعضنا بعضاً، بعد أن زاد العنف على حياتنا.
العنف ضد الحيوان.. سلوك غريب علينا
سألنا الناشطة في مجال حقوق الحيوان، صباح بنرزوق، عن أسباب انتشار العنف ضد الحيوانات في عالمنا العربي، فأجابت «العنف ضد الحيوانات الضعيفة سلوك غريب على البيئة العربية، لكنه أصبح- للأسف- يسيطر على سلوك الكثيرين نتيجة ثقافة العنف التي انتشرت وسيطرت على سلوك كثير من الناس».
وتُرجع العنف ضد الحيوان لأسباب كثيرة من بينها فقدان التربية النفسية السوية منذ الصغر، وتهميش القيم الأخلاقية في حياتنا، وسيطرة القيم النفعية، وغياب خلق الرحمة والرفق بالحيوان عن سلوكيت بعض الناس، سواء أكانوا من خاصة الناس أم عامّتهم، فهناك من يطارد الطيور والحيوانات النادرة ويقتلها لكي يأكلها، وهناك من البسطاء من أدمن العدوان يومياً على الحيوانات، رغم أنه ينتفع بها ويقضي من خلالها مصالحه المعيشية، فما زال الحيوان يستخدم كآلة لجرّ للعربات في كثير من المناطق البدائية، ويستخدم كآلة زراعة وخدمة للمزارعين في مناطق كثيرة من بلادنا العربية، ومع ذلك يتم التعامل معه بعنف شديد وقد يلحق به الأذى ويتعرض للموت نتيجة هذا العنف، وفي كثير من البيوت يتم ترك الطيور والحيوانات الأليفة للأطفال لكي تلهوا ويعبثوا بها من دون تربية صحيحة لأولادنا بكيفية التعامل برفق ورحمة مع الحيوانات.
لذلك تطالب بضرورة مواجهة هذه القسوة بنشر تعاليم وقيم الإسلام التي تحث على الرحمة والرفق بالحيوان حتى لا تصبح القسوة على الحيوان سلوكاً عاماً، وظاهرة مزعجة للجميع.