تعددت التجاوزات الشرعية والسلوكيات الخطأ التي لا يقرها ديننا على موائد الطعام، خاصة تلك التي يجتمع حولها بعض الشباب والمراهقون، وهو الأمر الذي يتنافى تماماً مع آداب وتعاليم الإسلام، الذي يضبط سلوك الإنسان ويرتقي بأخلاقياته في كل مراحل عمره.. ولذلك كان ضرورياً أن نعود إلى آراء علماء الإسلام والأطباء للوقوف على مخاطر الانفلات السلوكي على موائد الطعام.
الأكل باليد أم بأدوات المائدة؟
بداية، يؤكد الفقيه الأزهري د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق، أن موائد الطعام في عالمنا الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص تحتوي على تجاوزات شرعية، وهي سلوكيات خطأ ينسبها البعض للإسلام وهو منها براء، مثل موضوع ضرورة تناول الأكل باليد، وعدم استخدام أدوات المائدة، وهذا غير صحيح، لأن الإسلام يلزم المسلم بكل ما يجسد رقيه وتحضره وهو يتناول طعامه، وليس من المقبول أن تجلس جماعة على طعام واحد يتناول بعضهم طعامه باستخدام أدوات المائدة، بينما يجلس آخرون يفعصون في الطعام بأيديهم اعتقاداً أنهم يطبقون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان السوي ابن بيئته، ولو عاش رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في عصرنا لتناول طعامه بأدوات المائدة العصرية.
ويضيف «أيضاً تشهد بعض الموائد سفهاً وإسرافاً واضحاً في كميات الطعام التي تعد فيأكل الجالسون ربعها أو خمسها، ويلقى الباقي في صناديق الفضلات، وهذا إهدار لنعم الله عز وجل وخاصة في هذا العصر الذي عز فيه الغذاء وارتفعت أسعاره، والإسراف في الموائد ليس علامة كرم كما يتوهم البعض، فالكرم أن تطعم ضيفك من أجود ما تستطيع وليس أن تعد له طعاما كثيرا فيأكل القليل منه ويرمى الباقي.. هذا ليس كرما، واحترام نعم الله، والتعامل معها بقدرها واجب كل إنسان سواء أكان ميسور الحال أو محدود الإمكانات».
الإسراف في تناول الطعام والشراب سلوك يجلب للمسلم غضب الله وعقابه
ويشدد د. واصل على ضرورة تربية الأبناء على احترام نعمة الطعام، «إحسان التعامل مع الطعام من حسن التربية التي ألزم الله بها الآباء، وينبغي أن يكون ذلك بالحسنى والقدوة الطيبة، والتوجيه التربوي الصحيح.. وعلينا أن نوضح لأبنائنا حقيقة مهمة تتعلق بعلاقة المسلمين بطعامهم وشرابهم، وهي أن الإسراف في تناول الطعام والشراب سلوك يجلب للمسلم غضب الله وعقابه لأننا نرى بعض الشباب ميسور الحال يطلب طعاماً كثيراً ولا يتناول منه إلا القليل، ويكون مصير بواقي هذا الطعام، وخاصة في المطاعم العامة، صناديق القمامة، ومن يفعل ذلك إنسان مستهتر بنعم الله لا يقدرها حق قدرها، ولا يلتزم بالأمر الإلهي الواضح «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين».
الدين والطب يوجهان آداب مائدة الطعام
د. حسام موافي، أستاذ طب الحالات الحرجة بكلية الطب بجامعة القاهرة، يؤكد أن تعاليم الدين تنقذ الإنسان على موائد الطعام من مصائب كثيرة، فهي تقدم له أولاً «كتالوجا» يحمل التوجيهات الصحيحة لتحقيق أقصى استفادة من الطعام وتجنب المخاطر التي تنجم عن سوء السلوك على الموائد.
ويوضح :
أخطاء سلوكية قد تنجم عن الأكل الجماعي من إناء واحد
وينبه د. موافي هنا إلى أمر مهم في ترتيب أولويات الطعام، وهو البدء بالفاكهة على عكس ما يفعل كثير من الناس، حيث يتناولون اللحوم والنشويات والكربوهيدات أولاً ثم يختمون بالفواكه أو الحلويات، والأفضل هنا غذائياً وطبياً أن نبدأ بما بدأ به الله في قوله تعالى: «وفاكهة مما يتخيرون ولم طير مما يشتهون»، فالبدء بالفواكه يحقق للإنسان فوائد عديدة ويحميه من مخاطر كثيرة.
كما ينبه د. موافي لأخطاء سلوكية قد تنجم عن الأكل الجماعي من إناء واحد في حالة تناول الأكل باليد، وممارسة سلوك يرى فيه البعض مظهراً من مظاهر الكرم العربي، وهو قطع اللحوم باليد وتقديمها للمجاورين على المائدة، ويقول «عندما يأكل الإنسان بيده فهو يضعها داخل فمه، ثم يعيدها إلى الإناء الجماعي للطعام مرة أخرى، ولو كان هذا الإنسان مصاباً بجرثومة المعدة أو أي مرض آخر من الأمراض المعدية وهي كثيرة وخطيرة فسوف ينقل المرض لكل المحيطين به، وهذا يمثل سلوكاً محرماً شرعاً، فالإسلام يرفع شعار (لا ضرر ولا ضرار)».
الإسلام.. دين رقي وتحضر
من جهته، يؤكد د. محمود الصاوي، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن آداب الإسلام وتحضره وحرصه على رقي سلوك أتباعه يتجلى بوضوح في توجيهاته للإنسان على موائد الطعام، ويضيف «السلوك على موائد الطعام يكشف عن درجة الرقي والتحضر، وبدون مبالغة نؤكد أن كل ما جاء به الإسلام من آداب وتوجيهات عل موائد الطعام يؤكد هذه الحقيقة فالإسلام أولى عناية كبيرة بسلوك الإنسان وهو يأكل ويشرب، وكان ذلك من ضمن اهتمامه البالغ بالارتقاء بسلوك الإنسان، وهو يمارس كل نشاطات الحياة لضبط هذا السلوك بأخلاقيات رفيعة وقيم راقية، من شأنها أن توفر للإنسان حياة مستقرة يشعر فيها بالسعادة والطمأنينة من خلال رضا الآخرين عنه، وإعجابهم بسلوكه الراقي».
ويعدد د. الصاوي أهم الآداب والسلوكيات التي حث عليها الإسلام على مائدة الطعام، أهمها:
علمنا إسلامنا أن التطفل على الموائد ممقوت، ولا يتناسب وكرامة الإنسان
أدب إسلامي على موائد الطعام
ورغم غياب كثير من توجيهات الإسلام عن سلوكيات البعض على موائد الطعام، فإن د. الصاوي يشدد على أن الأدب الإسلامي على موائد الطعام كفيل بعلاج التجاوزات التي نشهدها يومياً، وتسيطر على بعضها عادات وتقاليد لا تمت لتعاليم وآداب الإسلام بصلة، فالبعض يعتقد أن تناول الطعام وهو جالس على كرسي ليس مشروعاً، والبعض يأكل بيديه ويفعص في الطعام بأصابعه بطريقة مقززة، وهو يظن أو يتوهم أنه يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويضيف «نعم، روي عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يأكل بيديه، ولو طهر الإنسان يده جيداً وأكل مما يليه، أي من أمامه فقط ولم يضرب بيده في قصعة الطعام كلها، وأخذ يوزع على المحيطين به بيده التي يضعها في فمه.. لو فعل الإنسان ذلك فلا بأس، لكن من غير اللائق وغير المباح شرعاً أن يضرب الإنسان بيده في إناء الطعام ثم يوزع الطعام على المحيطين به باليد نفسها. يجب أن نتجنب على موائد الطعام كل ما يتنافى مع السلوك الإسلامي الذي يشع كل معاني الذوق والأدب واحترام مشاعر الآخرين، وأن نرسم الصورة الصحيحة لديننا، ليس من أجل الشكل العام فقط.. ولكن لنتناول طعامنا وشرابنا بالشكل الذي يعود علينا بالنفع، ويمنع عنا الضرر».
الأكل باليد.. بضوابط
سألنا أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر: البعض يصر على تناول الطعام بيده اقتداء برسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. فبماذا تنصح هؤلاء؟
أجاب «لا بأس أن يتناول الإنسان طعامه بيده من إنائه بشرط أن يلتزم بالضوابط السلوكية التي كان يحرص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعلى الجميع أن يفهم أن الإسلام على عكس ما يفهم كثير من الناس لم يأمرنا بأن نأكل بأيدينا ونترك أدوات المائدة التي تساعدنا على ذلك، وتضبط جانباً من سلوكنا العام مع الطعام، فترك أدوات المائدة ووضع الأيدي في أطباق الطعام ليس مطلباً إسلامياً، بل على العكس، فمادام هذا الأمر منفرا فهو مرفوض إسلاميا، فالإسلام يرفض ويدين كل تصرف أو سلوك يؤذي مشاعر الآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى يد غلام (عمر بن أبي سلمى) تطيش في صحفة الطعام قال له: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
إقرأ أيضاً: علماء الأزهر: نشر صور الطعام على مواقع "السوشيال ميديا" مرفوض شرعًا