من مظاهر العبث التي ابتلينا بها في السنوات الأخيرة الاستغلال السيئ للدين، وكشف عورات البيوت وما يحدث بين الأزواج والزوجات من مشكلات تتعلق بالعلاقات الحميمة.. حيث تلجأ بعض الفضائيات التي تبحث عن مشاهدين، والمواقع التي تبحث عن متابعين، إلى استغلال الدين في الإثارة الإعلامية، وهو الأمر الذي يرفضه علماء الإسلام ويحذرون منه، لأن فيه إهدار لقيمة الدين ومكانته في نفوس الناس، وإضاعة لهيبته كحاكم وضابط لسلوكيات الجميع وموجه لحياتهم.
لذلك توجهنا إلى عالم فتوى كبير له باع طويل في الإفتاء لكي نتعرف منه إلى «أدب السؤال في أمور الدين» حتى لا يتورط عامة الناس في تساؤلات يغلب عليها الإثارة، وتفتقد إلى أدب السؤال، وأخلاقيات الاستفتاء.. وهو العالم الأزهري د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر السابق ورئيس لجنة الشؤون الدينية بالبرلمان المصري، حيث ينصح مبدئياً بعدم التورط مع الوسائل والأدوات الإعلامية التي تستخدم الدين في الإثارة وجمع المشاهدين، ويقول «السؤال في أمور الدين له آداب وأخلاقيات ينبغي أن يلتزم بها المستفتي، كما ينبغي أن يكون السؤال فيما يفيد، ولا يجوز كشف أسرار البيوت والعلاقات الخاصة بين الزوجين على الهواء مباشرة كما نرى كل يوم تحت ستار (لا حياء في الدين)».
ويضيف «ينبغي أن نتعلم أدب السؤال، والسؤال عن الأمر الخاص يكون مقبولاً ومطلوباً لو تم ذلك بين السائل والمجيب، لكن على الهواء ويسمعه الأطفال والشباب والنساء لا يجوز. والقرآن الكريم علمنا أدب السؤال، وعلمنا العفة في التعبير عن مشكلاتنا وهمومنا، وحثنا على عدم الإلحاح في السؤال فيما لا يفيد، فقال الحق سبحانه وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم».
الجماهير تتطلع دائماً إلى معرفة الحلال والحرام في حياتها الشخصية.. فهل هناك محاذير أو ضوابط تحكم السؤال في أمور الدين؟
رغم حالة الانفلات السلوكي والأخلاقي التي نعانيها في بعض مجتمعاتنا العربية، هناك رغبة صادقة من كثير من الجماهير للتسلح بمعرفة الحلال والحرام، سواء في الأمور العامة من عبادات ومعاملات، أو في الأمور الشخصية، والواقع أن حرص الجماهير المسلمة على معرفة الحلال والحرام والمباح والمحظور عن طريق سؤال العلماء أمر طيب، وسلوك يؤكد ارتباط المسلمين بدينهم، وحرصهم على العمل وفق شريعة الله.
معظم الناس تريد أن تسأل العلماء في كل شيء، ولذلك تعددت برامج الفتاوى في الفضائيات
ونحن كعلماء نسعد كثيراً بإقبال جماهير المسلمين على الفتاوى، فمعظم الناس تريد أن تسأل العلماء في كل شيء، ولذلك تعددت برامج الفتاوى في الفضائيات، وحرصت الكثير من الصحف على تخصيص مساحات للفتاوى، وتعددت لجان الفتوى بالمساجد والمؤسسات الدينية.. وكل ما يساعد الناس على معرفة أمور دينهم أمر محمود طيب لو كان الناس يحرصون على ما يقوله لهم العلماء. لكن للأسف نجد الكثيرين يسألون عن حكم الشرع في أمور حياتهم اليومية، وبعد معرفة الحكم الصحيح لا يعملون به، وهنا تكون تساؤلاتهم بلا معنى.
هل كثرة السؤال في أمور الدين دليل تقوى وورع؟
لو تبع السؤال في أمور الدين التزام بما يقوله العلماء، يكون دليل تقوى وورع.. لكن الأعمال بالنيات، فالبعض يسأل في أمور الدين لكي يبحث عن مبرر شرعي لسلوكه المخالف لتعاليم الدين، والبعض يذهب لأكثر من عالم بحثاً عن رخصة شرعية لسلوكه الخطأ، وهنا يعطي الله السائلين على قدر نواياهم.
الحرص على تعاليم الدين وأحكامه أمر طيب، يحمد لكل من يسأل ليعلم ويهتدي، أما بعض الناس الذين يكثرون من السؤال لكي يحصلوا على مبرر شرعي لسلوكياتهم وتصرفاتهم وقناعاتهم، فهذا الصنف من الناس تراهم يجادلون العلماء ويناقشوهم ويقدمون لهم المبررات، ويسوقون لهم المسوغات لكي يحصلون على فتاوى على هواهم، ولذلك معظم هذا الصنف من الناس لا يقتنعون بما يقوله العلماء الذين يستفتونهم، ولذلك هم لا يستفيدون من الفتوى شيئاً، فهم ليسوا حريصين على معرفة الحلال والحرام.
ما حكم من يسأل عن الحلال والحرام ولا يعمل بما يقوله العلماء؟
الله سبحانه وتعالى يأمر كل عباده أن يرجعوا إلى العلماء لمعرفة ما خفي عنهم من أمور الدين، فيقول عز وجل: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون».. لكن الغريب والعجيب أن يسأل بعض الناس عن موقف الشرع في أمور حياتية، ويسمع الإجابة ولا يعمل بها، فقد يسأل إنسان عن كيفية إخراج زكاة ماله، والحكم الشرعي لو أهملها ولم يخرجها، ونحن نوضح له وجوب إخراج الزكاة عندما يبلغ ماله النصاب الشرعي، ونحذره من إهمال فريضة دينية، ونوضح له العقاب الإلهي الرادع، ثم ينصرف هذا السائل دون أن يفكر في إخراج زكاته.. وهذا يرجع إلى ضعف الوازع الديني في نفوس الناس.
بعض وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات تهتم بنوعية خاصة من تساؤلات الجماهير وخاصة تلك التي تتعلق بالعلاقات الحميمة ومشكلاتها.. فهل السؤال في هذه الأمور تحكمه ضوابط خاصة؟
السؤال في أمور الدين عامة تحكمه آداب وأخلاقيات وضحها العلماء في باب خاص في كتب الفقه اسمه «أدب المستفتي»، لكن هذه النوعية من الفتوى ينبغي أن تخضع لضوابط أشد، حتى لا تتحول إلى وسيلة للإثارة، وتحقيق أهداف تسويقية للوسائل الإعلامية، ولا حرج أن يسأل الرجل أو المرأة في أمر خاص بالعلاقة الحميمة، ولكن ينبغي أن يكون السؤال في إطار أخلاقي، ويفضل أن يكون بين المفتي والمستفتي بعيداً عن مسامع وعيون الآخرين، ولو عرض من خلال وسيلة إعلامية ينبغي أن يغلف بغلاف أخلاقي، حرصاً على عدم خدش الحياء، ونقل سلوكيات غير أخلاقية لأطفالنا وشبابنا.
كيف تنظرون إلى كثرة برامج الفتاوى في الفضائيات ومساحات الثقافة الشرعية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية؟
لا شك أن كثرة برامج الفتاوى ومساحات الثقافة الشرعية في الصحف والمجلات أمر طيب، من شأنه أن يسهم في نشر تعاليم وأحكام الإسلام بين الجماهير، لكننا نؤكد ضرورة انتقاء العلماء المؤهلين للفتوى، كما نطالب الجماهير بعدم اللجوء إلى هؤلاء الذين أدمنوا الفتوى في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دون أن يتأهلوا لها.
ونحن من خلالكم ننصح الجماهير المسلمة في كل مكان بأن تذهب إلى العلماء الذين يملكون الثقافة الشرعية الواسعة، وخبرة الفتوى، لكي يتعرفوا إلى الأحكام الشرعية الصحيحة.