من الرذائل التي زادت في حياتنا المعاصرة رغم تحذيرات علماء الإسلام منها «قطع الأرحام» وما يصاحبها من جفاء اجتماعي في التعامل مع الأهل والأقارب.. حيث أكدت دراسة اجتماعية نوقشت مؤخراً بجامعة عين شمس المصرية أن 87% من الشباب لا يتذكرون أقاربهم وأهل رحمهم إلا في المناسبات الدينية والأعياد، وأن 36% من هؤلاء يكتفون بإرسال رسائل لهم في المناسبات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ولا يحرصون على زيارتهم ومودتهم!!
وفى غضون ذلك حذر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية من انتشار رذيلة قطع الأرحام في المجتمعات الإسلامية المعاصرة وحث العلماء والدعاة على تذكير الجماهير بالتداعيات الدينية والاجتماعية والنفسية لهذا السلوك الجاف الذي ترفضه وتدينه كل الشرائع السماوية.
صلة الرحم.. من أبرز أخلاق الرسول
في البداية يؤكد الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أن صلة الرحم إحدى أدوات الإسلام الفاعلة لتقوية أواصر الصلات داخل المجتمع، ولمكانتها وعظم أجرها ذكرها الله تعالى مقرونة بتقواه فقال عز وجل: «واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام»، أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم وبر ذوي القربى ومودتهم جزاؤه البركة في العمر والرزق، فقال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه».
وصلة الرحم ليست مقصورة على الأهل فقط، بل يراها بعض العلماء وسيلة لتحقيق التواصل والتراحم وتقوية الصلات بين كل أفراد المجتمع ولو بطريقة غير مباشرة، وكانت صلة الرحم إحدى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وتبليغه بالرسالة، وكانت من الأسباب التي ذكرتها له السيدة خديجة رضي الله عنها، لتطمئنه وتهدئ من روعه بعد نزول الوحي عليه، فقالت له: (أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
ولذلك يؤكد د. الطيب أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة جميعاً في أمس الحاجة إلى صلة الرحم، ويقول «الرحمة مطلوبة من المسلم مع جميع الناس، على أن يكون النصيب الأوفى من الرحمة للوالدين والأهل التزاماً بما أوصانا به الإسلام من صلة رحمهم والرحمة بهم، ولا تزال مجتمعاتنا الشرقية تعول على التآلف والتواصل والتراحم والدفء الأسري، والقرآن الكريم يوصينا بصلة الرحم ويحذر من قطعها، ومن ذلك قوله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، والخطاب في تلك الآية موجه لمن أعرض عن أوامر الله بما يؤدي إلى تمزق الأسر وتشريد ذوي الأرحام».
صلة الرحم أمر من أوامر الشريعة يستوجب الطاعة، وقطيعتها نهي إلهي
ويوصف د. الطيب جريمة قطع الرحم بأنها تكاد تعادل جريمة الفساد في الأرض بكل بشاعتها، وبكل ما ينتج عنها من حروب وهلاك وتدمير.. «صلة الرحم ليست مجرد فضيلة من الفضائل، للمسلم أن يفعلها فيثاب عليها، أو يتركها فلا يعاقب عليها، فهذا فهم خاطئ لا يزال عالقاً في عقول كثيرين وكثيرات ممن يستهينون بصلة الأرحام، وتهون عليهم قطيعتها، والحقيقة التي يجب علينا أن نتوقف عندها هي أن صلة الرحم أمر من أوامر الشريعة يستوجب الطاعة، وقطيعتها نهي إلهي يستوجب الكف والامتناع، فهي مناط الثواب أو العقاب يوم القيامة».
التمادي في قطع الأرحام.. خسة وسوء خلق
العالم الأزهري د. أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، يحذر من التمادي في قطع الأرحام، ويؤكد أنها خسة ما بعدها خسة، فكيف يتصرف الإنسان بجفاء وخشونة مع أقرب الناس إليه؟ ويبين «من أبشع مظاهر قطع الأرحام في عصرنا (عقوق الآباء والأمهات)، وهى جريمة أخلاقية شاعت بين نسبة ليست بالقليلة من أولادنا، وعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم لكى ينجو من عقاب الخالق سبحانه، وهو لو يعلمون عظيم».
ويضيف «صلة الرحم تقف على قدم المساواة مع الأمر بالتوحيد وإقامة الصلاة، فقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»، وذلك رغم كونها ليست ركناً من أركان الإسلام، إلا أن ورودها في هذا الحديث مع أركان الإسلام يفيد عظم شأنها».
وهنا يذكر د. هاشم كل من ابتلاهم الله برذيلة قطع الرحم، بالحديث الشريف: «لا يدخل الجنة قاطع رحم». وقال في حديث آخر: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدق بسحر، ولا قاطع رحم»، وأخبرنا ﷺ أن أبواب السماء مغلقة في وجه قاطع الرحم.. وأن عقوبته يعجل الله له منها في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة ما يناسب جرمه.
مصيبة قطع صلة الرحم من يتلوث بها لا يرجى منه خير
ويرى العضو البارز في هيئة كبار العلماء بالأزهر أن قطع الأرحام أصبح اليوم مقدمة لنشر الجرائم في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فما أكثر الجرائم التي تحدث بين الأهل والأقارب نتيجة العدوان على حقوق الميراث التي شرعها الله وحددها بنصوص قاطعة، وما أكثر الجرائم التي تحدث نتيجة خلافات بسيطة لا تستدعى خلافاً ولا صراعاً بين الأهل.
ويوضح «مصيبة قطع صلة الرحم من عموم البلوى التي أصابت مجتمعاتنا الإسلامية، وهى نتيجة طبيعية لغياب التربية الأخلاقية، وانهيار العلاقات الأسرية، وهى دليل على قسوة القلب وجمود العواطف وتبلدها، ومن يتلوث بها لا يرجى منه خير، ولا تؤمل منه رحمة، ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن يفعل ذلك بأقرب الناس إليه فماذا يفعل مع الغرباء عنه، وقلبه إذا قسا على ذويه فهو على غيرهم أقسى، وأغلظ والإسلام يحذر من ذلك أشد التحذير لأن قطع الأرحام يتسبب في ضياع وشائج المودة والمحبة بين الناس لهذا فمن الطبيعي أن يكون قاطع الرحم أشقى الناس وأقلهم بركة وتوفيقاً».
قطع الرحم.. على الباغي تدور الدوائر
ويحذر عضو هيئة كبار العلماء من توريث مثل هذه العادات السيئة التي تفرز جيلاً متمرداً عاصياً، فمن يعامل والده معاملة سيئة أمام أولاده سيغرس فيهم منهجاً شاذاً يعاملونه على أساسه عندما يشبون ويصبحون هم المسؤولين عنه.
ويؤكد أن عقوبة قاطع الرحم لا تقف عند الحرمان من الجنة إنما يلمس صاحبها العقوبة في الدنيا حيث يجعلها الله عز وجل في مظاهر عديدة من التعاسة والشقاء والمقت كما يكون ممقوتاً من قبل الناس وبالتالي يكون أهون الناس وأشقاهم.. ولا أعلم كيف ينسى كل من يقطع رحمه أن على الباغي تدور الدوائر؟! وكل ما يفعله الإنسان لابد أنه سيراه يوماً لأنه كما تدين تدان، وقد رأينا مصداق ذلك في دنيا الواقع، فقاطع الرحم غالباً ما يكون تعباً قلقاً في حياته، لا يبارك الله له في رزقه، بل يعيش منبوذاً بين الناس لا يستقر له وضع ولا يهدأ له بال.