تعوّد بعض الناس على كثرة الحلف.. بالله، بالطلاق، بأبويه، بأولاده، أو بأي شيء عزيز عليه، وأصبح الحلف سلوكاً يومياً معتاداً في حياتهم.. فما حكم الشرع في هذا السلوك؟ وهل يحاسب الإنسان على ذلك لو كان صادقاً في قسمه؟ وما هي الحالات التي يجوز فيها القسم؟ وما حكم الحلف بغير الله؟
تساؤلات كثيرة عرضناها على عدد من علماء الإسلام والمعنيين بالفتوى لمعرفة المباح والمحظور في الأيمان.. وفيما يلي خلاصة ما قاله العلماء ونصحوا به:
في البداية، يؤكد العالم الأزهري د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر السابق، أن كثرة الحلف سلوك مرفوض شرعاً، وهو دليل على عدم الثقة بالنفس أو عدم الثقة بمن يُحلف له. لذلك لا ينبغي أن يحلف الإنسان بالله في كل صغيرة وكبيرة، وينبغي أن يكون الإنسان صادقاً في حلفه لو اضطر إلى الحلف.
ويضيف «الله سبحانه وتعالى يذم كل من يحلفون دون وجود ما يستدعي الحلف فيقول تعالى: «ولا تطع كل حلاف مهين».
"الحلاف هو الإنسان كثير الحلف، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، والحكمة في الحث على تقليل الإيمان- كما قال العلماء- أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل الغرض الأصلي في اليمين".
لا ينبغي على المسلم أن يلجأ إلى الحلف إلا عند التأكيد على شيء معين، يقول الحق سبحانه: «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ»، وقد نزلت هذه الآية في جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حرموا على أنفسهم بعض الطيبات، فوجههم الخالق سبحانه إلى كفارة اليمين، والعودة إلى الاستمتاع بالطيبات، وهنا نكون أمام حكم شرعي وهو أنه لا يجوز لمسلم أن يحرم نفسه من شيء أباحه الله ورسول بيمين لغو، ولو فعل يكفر عن يمينه ويعود إلى الاستمتاع بالطيبات، كأن يقسم إنسان ألا يقرب زوجته، أو ألا يتعاطى الدواء، أو ألا يصل رحمه.. وهكذا".
وعن حكم من حلف بالله كذباً، يقول مفتي مصر السابق «من حلف بالله كذباً لا كفارة عليه، ولكن يحتاج إلى
فهذه الأمور الأربعة هي التي تتم بها التوبة.
أما كفارة اليمين فتكون عند الحلف على شيء في المستقبل، كأن يحلف شخص: «والله لن أسافر غداً»، ثم اضطرته الظروف للسفر؛ ففي هذه الحالة عليه كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين عن كل حلفان حلف به، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام. ومن حلف على شيء وأقدم عليه فعليه كفارة. أما من يحلف عفواً أو تعوداً فهو يرتكب أمراً مكروهاً حتى ولو كان صادقاً، وعليه أن يكف عنه، ولا تلزمه كفارة».
إذا كان الحلف صادقاً كأن يقول شخص لآخر (تفضل تناول معي الطعام)، فيرد عليه (والله لا أستطيع فأنا شبعان)، وهو فعلاً ليس جائعاً فهذا جائز ولا حرمة فيه. أما إذا كان الشخص جائعاً ويحتاج إلى تناول الطعام، وحلف بالله أنه شبعان، فقد كذب في يمينه، وهذا حرام شرعاً.
د. هبة عوف، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر والداعية الإسلامية، تشرح «ننصح الجميع بعدم الإكثار من الحلف حتى ولو كان الإنسان صادقاً، لأن تكرار الحلف في هذه الحالة يكشف عن عدم مهابة الإنسان من خالقه، وطالما كان الإنسان صادقاً فيما يقول أو يفعل فلا يعنيه أن يصدقه الناس أم لا. لكن الكاذب يقسم ليصدقه الناس، وهذا دليل على ضعف الشخصية. ولنا في إخوة سيدنا يوسف عليه السلام مثالاً واضحاً عندما قالوا لأبيهم: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، وهذا من كثرة كذبهم عليه فاعتاد منهم الكذب».
تنصح الأستاذة والداعية الأزهرية كل مسلم بعدم الحلف إلا إذا طلب منه ذلك، موضحة أن الحلف قد يكون واجباً لو ترتب عليه حق للنفس أو الغير، أو لتبرئة مظلوم، أو لإدانة ظالم أمام القضاء.. وما سوى ذلك، فلو امتنع الإنسان عن الحلف فلا حرج عليه.
ولكن هل يجوز للإنسان أن يحنث في يمينه ويكفر عنه؟ يجيب د. أحمد مصطفى، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو لجنة الفتوى بالأزهر، «لا يجوز لإنسان أن يقسم على عدم فعل أمر مطلوب أو مرغوب شرعاً، كأن يقسم ألا يبر والديه، أو ألا يصل رحمه، أو ألا يزكي أو يتصدق، وغير ذلك من الأمور المطلوبة منه شرعاً سواء على سبيل الفرض أو الندب. ولو أقسم الإنسان في مثل هذه الحالات عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنه. والله سبحانه وتعالى يأمرنا بذلك في قوله تعالى: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتقسطوا»، أي: لا تجعلوا الحلف بالله حاجزاً ومانعاً عن البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فالله سبحانه ينهانا عن أن نجعل الحلف به مانعاً من الخير، وهناك أحاديث كثيرة تحض من حلف على ترك أمر من أمور الخير أن يكفر عن يمينه، ومن هذه الأحاديث قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها». كما جاء في حديث آخر: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير».
ويعود د. علي جمعة ليحذر من الحلف بالطلاق كما يفعل بعض الناس، ويبين «الحلف بالطلاق أصبح سلوكاً معتاداً لدى بعض الناس، وهذه مصيبة كبرى يجب أن يحذرها هؤلاء، فكثرة الحلف بالطلاق يضر الرجل فقط، ولا علاقة للمرأة به؛ فلا إثم عليها بل هو ممن يضعه الله عز وجل في ميزان حسناتها وثوابها. الحلف بالطلاق يكشف عن جهل وحماقة، فالحلف لا يجوز أصلاً أن يكون بغير اسم الله أو صفة من صفاته، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واضح: «من أراد أن يحلف فليحلف بالله أو ليصمت».
ويوضح د. جمعة أن تكرار الحلف بالطلاق يعد من اليمين المقصود من صاحبه؛ وعليه في كل مرة إخراج كفارة يمين؛ إن كان ما قاله مخالفاً للواقع وكذب فيه. ونوه أن كفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
أما د. محمود شلبي ، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية ، فيصف الحلف بالطلاق بأنه (من أيمان الفسّاق)، وقد قال بعض أهل العلم: إن من كثر حلفه بالطلاق والحرام ترد شهادته ويحكم بفسقه، ويؤكد «بعض الرجال من كثرة حلفهم بالطلاق يعيشون حياة الحرام مع زوجاتهم وهم لا يدرون، أو يدرون ولا يعبهون لضعف ضميرهم الديني.. وعلى كل رجل ابتلاه الله بهذا السلوك أن يدرك أن كثرة الحلف بالطلاق قد يحرم عليه زوجته، والمرأة إذا طلقت ثلاث طلقات فإنها تبين من زوجها، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مصداقًا لقول الله تعالى: “الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»».
ويعود د. أحمد مصطفى محرم ليوضح لنا موقف الشرع في سلوك بعض التجار الذين يكثرون من الحلف لترويج بضاعتهم، وبعضهم يحلف بالطلاق، ويقول «لا يجوز لرجل أن يحلف بالطلاق من أجل ترويج بضاعته، لأنه إن كان كاذباً فزوجته طالق على رأى جمهور الفقهاء، ورأى بعضهم أن الحلف به معلق إن لم يقصد طلاق زوجته فلا يقع طلاق، وعليه كفارة يمين إن كان كاذباً».
ويحذر عضو لجنة الفتوى المركزية بالأزهر التجار من الحلف مطلقاً لترويج البضاعة، وبخاصة إذا كان الحلف كذباً، فالكسب الذي يأتي من هذا الطريق الكاذب حرام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن التجار هم الفجار» قالوا: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال «بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون» وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق -أي يروج السلعة- ثم يمحق» أي يذهب البركة.