جلس الرجل المسن يبكي على «فيسبوك» ويروي قصته مع أولاده الذين وزع عليهم ثروته كاملة عقب تقاعده من وظيفته لبلوغه السن القانونية، ولم يبق له سوى مبلغ المعاش الشهري الذي أصبح لا يكفي متطلبات حياته الأساسية.
قال الرجل المكلوم في أولاده العاقين «وزعت عليهم ممتلكاتي وأموالي وثمرة كفاحي الطويل بعد أن علّمت بعضهم وزوّجتهم جميعاً.. فعلت ذلك برغبتي وكامل إرادتي حتى لا يتشاجروا على الميراث بعد رحيلي .. وبعد أن ضاقت بي الحياة ولم يعد معاشي يكفي متطلباتي طلبت منهم مساعدتي ببعض ما أعطيتهم ولكنهم ماطلوني، وكل واحد منهم تملص من إعانتي ورماني على الآخر.. بل قاطعوني ولم يعد أحد منهم يسأل عني ولو هاتفياً لأنني تزوجت من سيدة فاضلة بعد وفاة أمهم حتى لا أعيش وحيداً.. والآن أنا أشكوهم لله وأنصح كل أب ألا يقدم على ما فعلته أنا، فلا يدري الإنسان ماذا سيحدث له بقية عمره».
هذه الشكوى أثارت ردود فعل كبيرة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، كما خلقت حالة من الجدل بين المتابعين، فمنهم من صب جام غضبه على أولاده العاقين، ومنهم من عاتب الرجل على ما فعل، ومنهم من عرض مساعدته لكي يواجه متطلبات حياته بعيداً عن أولاده.
والواقع أن قصة هذا الرجل مع أولاده تطرح تساؤلات مهمة أبرزها: هل يجوز شرعاً توزيع التركة على الأولاد حال حياة الوالدين تجنباً لما قد يحدث بينهم من خلافات ومشاجرات في المستقبل؟ وكيف يتم التوزيع العادل؟ وما نصائح وتوجيهات العلماء للآباء هنا؟
من حق الأب أن يمنح أولاده من ممتلكاته «عطايا وهبات» كيفما يشاء بشرط أن يكون عادلا بينهم، فلا يميل تجاه أحدهم أو بعضهم إلا إذا كان لديه المبررات المشروعة لذلك
في البداية يؤكد العالم الأزهري د. على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق، أن ما فعله الأبناء مع أبيهم هو العقوق بعينه، فنفقة الأب المحتاج واجبة على أبنائه بصرف النظر عن توزيعه تركته عليهم من عدمه، ويقول «واضح أن هؤلاء الأبناء يعاقبون الأب على زواجه بعد رحيل أمهم، وهذا في حد ذاته عقوق وجحود، لأن الزواج حق مشروع للرجل ولا يجوز لأحد سواء من الأبناء أو غيرهم مصادرة هذا الحق. فهؤلاء الأبناء آثمون عاقون لأبيهم، وعليهم وعلى أمثالهم أن يراجعوا أنفسهم حتى لا يطولهم عقاب الله سبحانه، وهو عقاب شديد».
ويؤكد مفتي مصر السابق أن الشرع يلزم الأبناء الموسرين بنفقة الوالدين المعسرين، ولا شك أن الوفاء بحاجة الآباء ورعايتهم وهم في نهاية عمرهم من أروع صور البر التي ينبغي أن يحرص عليها الأبناء «لقد ربى الآباء وعلموا وأنفقوا ثمرة كفاحهم على أولادهم حتى أصبحوا في موقع المسؤولية، وعليهم أن يردوا بعض ما عليهم من ديون لآبائهم وأمهاتهم».
في المقابل، يعيب د. جمعة سلوك هذا الأب حتى ولو كانت دوافعه إنسانية، ويقول لكل من يفكر بهذه الطريقة «من أدراك أنك ستموت قبل أولادك؟ ومن أدراك بأنهم سيعيشون لما بعد موتك؟ ومن أدراك بأنهم سيقومون بواجب البر والإحسان نحوك؟ لقد أخطأت وأنت الآن تجنى ثمرة خطأك».
ويواصل «قصة هذا الرجل عبرة وعظة لكل من يريد أن يوزع ممتلكاته وأمواله على أولاده، ويعتقد أنه سيحميهم من قطيعة الرحم في المستقبل. الميراث الشرعي بعد الوفاة، ومن حق الأب أن يمنح أولاده من ممتلكاته «عطايا وهبات» كيفما يشاء بشرط أن يكون عادلا بينهم، فلا يميل تجاه أحدهم أو بعضهم إلا إذا كان لديه المبررات المشروعة لذلك، كأن يكون أحد الأبناء غير متعلم وإخوته متعلمون ولهم وظائفهم التي تدر عليهم دخلاً، أو يكون الابن مريضاً ويحتاج لتكاليف علاج، أو يكون بلا دخل يكفيه ليعيش كريماً وسط الناس.. وهكذا».
سألنا د. جمعة: كثير من الأبناء يعتبرون أموال أبيهم ملكاً لهم فيحجرون على تصرفاته أثناء حياته ويحددون له مجالات إنفاقه ويردون بعض تصرفاته.. ما موقف الشرع في سلوك هؤلاء
فأجاب «كل إنسان محكوم بتعاليم الدين في جمع الأموال وإنفاقها، والمسلم عموما مطالب شرعا بإنفاق المال في أوجه الإنفاق الشرعية، ودون تقتير أو إسراف وفقا لظروفه، ومن سمات المسلم الصالح أنه معتدل الإنفاق، فمن خصائص عباد الله الصالحين أنهم «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً». لذلك لا يحق للأبناء أن يحجروا على تصرفات أبيهم في ماله طالما كان في وعيه ورشده ويدرك ما يفعل حتى ولو تبرع بكل ماله للفقراء وأصحاب الحاجات. والإنسان الذي يعرف تعاليم دينه جيدا لا يضيع أولاده ولا يتخلى عن أمواله ليترك أولاده يتكففون الناس».
قد لا يكون الإنسان في توزيعه لأمواله على أولاده عادلاً منصفاً فيجلب لنفسه غضب الله وعقابه، وقد تتغير أحوال ورثته قبل موته بموت أحدهم فيكون ظالما للبعض
د. محمد نبيل غنايم، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، يتفق مع عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، قائلاً «المال مال الله سبحانه وتعالى والإنسان مستخلف عليه، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» وقال جل وعلا في موضع آخر «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه»، فالأموال والممتلكات هي ملك لله سبحانه وتعالى ويجب أن نتصرف فيها وفق ما علمنا الله عز وجل حتى لا يسألنا عنها يوم القيامة: «من أين اكتسبتموها وفيما أنفقتموها».
ويشدد د. غنايم على ضرورة أن يترك الإنسان أمر تركته لما بعد وفاته لتوزع توزيعا شرعيا صحيحا وفق ما حدد الخالق سبحانه، في قوله سبحانه «للرجال نصيب مما ترك الوالدين والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا»، فالخالق سبحانه هو العادل المنصف الذي حدد أنصبة المواريث وفق ما تقتضيه عدالته.
ويبين «قد لا يكون الإنسان في توزيعه لأمواله على أولاده عادلاً منصفاً فيجلب لنفسه غضب الله وعقابه، وقد تتغير أحوال ورثته قبل موته بموت أحدهم فيكون ظالما للبعض، وقد يموت جميع أبنائه قبل موته.. فالأولى أن يترك الإنسان أمر توزيع تركته على أولاده لما بعد مماته».
لكن أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة لا يجد مع ذلك حرجاً في توزيع الإنسان تركته على أولاده قبل وفاته إذا ما رأى الأب أن ذلك أفضل تجنباً للخلافات والنزاعات بين الأبناء شريطة أن يوزعها توزيعاً عادلاً كما وزع الخالق سبحانه، فيعطى الذكر مثل حظ الانثيين، ولا يحرم وارثاً من حقه، ويحتفظ لنفسه بما يكفيه حتى يلقى الله ليوزع ما يتبقى منه على ورثته بعد رحيله.
وينبه د. غنايم على أن هذه الإباحة لا تعني أن هذا السلوك هو الأفضل، بل الأفضل والأولى أن ينفق الإنسان من ماله على نفسه ومن يعول وينفق منه على مجالات الخير، ثم يترك أمواله وممتلكاته لتوزع بعد ذلك على ورثته بعد وفاته.
نصائح وتوجيهات الأزهر
من جانبه أعلن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أنه تلقى العديد من التساؤلات حول موقف الشرع من توزيع التركة حال حياة الإنسان.. وأجاب عنها بما يلي «توزيع الرجل تركته قبل موته غير جائز شرعاً، وذلك لأن موت المورث شرط أساسي من الشروط التي وضعها الإسلام للإرث، فمن شروط الإرث - كما قال الفقهاء - أربعة:
وبناء عليه: فإن توزيع الرجل تركته حال حياته غير جائز شرعاً.
وهنا ينصح العالم الأزهري د. أحمد عمر هاشم الآباء بترك توزيع ما يمتلكه الإنسان على ورثته الشرعيين لما بعد الوفاة، لكن يجوز له أن يعطى أبناءه عطايا وهبات لمواجهة أعباء الحياة ولتلبية رغباتهم المشروعة شريطة أن يكون عادلاً بينهم، وليس شرطاً هنا أن يعطى للذكر مثل حظ الانثيين، فهذا ليس ميراثاً، ولكنها عطايا وفقاً لحاجة كل ابن، وعليه أن يراعي العدل بينهم حتى لا يوغر صدور من يحصلون على أقل العطايا.