أعاد انتشار فيروس كورونا وتحوراته الخطيرة قضية «الموت الرحيم» للمناقشة على موائد الأطباء ورجال الدين في العديد من المجتمعات الغربية والشرقية، وشهدت بعض البلاد الأوروبية مطالب من الأطباء بتقنين إنهاء حيث الميؤوس من علاجهم والذين يعيشون على أجهزة التنفس الصناعي لفترات طويلة دون أمل في شفائهم وعودتهم إلى الحياة من جديد، وقد شهدت هولندا مؤخراً جدلاً طبياً وقانونياً ودينياً حول تخيير الأطباء لكبار السن عند إصابتهم بكورونا بين وضعهم على أجهزة التنفس الصناعي أم لا عند تدهور حالاتهم الطبية.
كما شهدت الساحة الطبية العربية أول دعوى قضائية ضد أطباء مستشفى بدعوى التعجيل بإنهاء حياة مريض أصيب بكورونا وتعجل أطباء الرعاية بالمستشفى رفع الأجهزة عنه بدعوى إعطاء فرصة لمريض آخر لديه أمل في الشفاء.
والتساؤلات التي تفرض نفسها هنا:
"العلاج في غرف الرعاية بالمستشفيات الخاصة مكلفة والبقاء فيها لفترات أطول يضاعف من المعاناة المادية لأسر المرضى"
في البداية يؤكد طبيب الرعاية الصحية بأحد المستشفيات المصرية «سعيد.. م ع» أن الموت الرحيم يطبق في كثير من البلاد الأوروبية وأيضا العربية دون أن تدري أسر المرضى، فهناك قواعد طبية يعمل بها أطباء الرعاية، ويتم التفاهم حولها مع الإدارة الطبية، فلو ترك مريض الرعاية إلى ما لا نهاية على أجهزة التنفس فهذا يعني عدم وجود فرصة علاج لمرضى آخرين، ذلك أن أجهزة الرعاية في المستشفيات وخاصة في كثير من بلادنا العربية محدودة ومع انتشار جائحة «كورونا» أصبح الوضع صعباً للغاية، فعدد ليس بالقليل من المرضى وخاصة كبار السن يحتاجون إلى هذه الأجهزة.
كما أن العلاج في غرف الرعاية بالمستشفيات الخاصة –غير الخاضعة للنظام الطبي للدولة- مكلفة للغاية والبقاء فيها لفترات أطول يضاعف من المعاناة المادية لأسر المرضى.. هذا فضلاً عن أن بعض الأسر تلح على الأطباء لإنهاء معاناة مرضاهم في حالة البقاء على أجهزة التنفس لفترات واليأس من شفائهم.
فكرة الموت الرحيم مرفوضة إسلامياً، ذلك أن قتل الميؤوس من شفائهم عدوان صارخ على النفس البشرية التي حرم الله قتلها إلا بالحق
ولأن القانون يصعب أن يطول هؤلاء الذين يطبقون الموت الرحيم دون وجود أدلة مادية تدينهم وتعرضهم للعقاب القانوني، فليس هناك ما يحمي الإنسان من هذه التجاوزات –كما يؤكد العالم الأزهري د. أحمد عمر هاشم ، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، سوى الوازع الديني، والضمير الأخلاقي، ومواثيق الشرف الطبية التي تلزم الأطباء باتخاذ كافة الوسائل لمساعدة مرضاهم على الشفاء.
ويضيف «فكرة الموت الرحيم مرفوضة إسلامياً، بل ومرفوضة من كل الأديان السماوية؛ ذلك أن قتل الميؤوس من شفائهم عدوان صارخ على النفس البشرية التي حرم الله قتلها إلا بالحق -أي قصاصاً- فكل تعاليم الإسلام، بل تعاليم كل الرسالات السماوية تؤكد حماية النفس البشرية، وبذل كل الجهود في علاجها من الأمراض، من دون يأس من الشفاء، لأن رحمة الله واسعة، وهو سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وكم من أمراض مزمنة قرر كبار الأطباء في العالم أن لا شفاء منها ثم تقدمت الأبحاث الطبية وتمكن العلماء والأطباء من التعامل معها ومحاصرتها وتخفيف معاناة المرضى بها».
ويؤكد د. هاشم أن فتح هذا الباب سيؤدي إلى مفاسد لا حصر لها، ويساعد ضعاف النفوس على قتل المرضى الضعفاء من دون مبرر لذلك، فقد يصاب الإنسان بحالة نفسية تدفعه إلى المطالبة بإنهاء حياته، ومساعدته على ذلك مشاركة في قتله، فالمريض مهما تدهورت حالته الصحية يحتاج إلى علاج، ويحتاج إلى من يساعده على تخفيف آلامه، وليس إلى من يقتله ويحرمه من نعمة الحياة.
لذلك، يحذر عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر من تقنين «القتل الرحيم» في عالمنا العربي لأنه مرفوض شكلاً وموضوعاً، ويمثل مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام، فقد قررت الشريعة الإسلامية أن قتل النفس جريمة من أكبر الجرائم، ما دام لا يوجد مبرر لذلك، والمبررات الشرعية للقتل تنحصر في القصاص، والحروب دفاعاً عن الدين والوطن والعرض، فيقول سبحانه: «ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً».
لا يجوز شرعاً للإنسان المريض أن يقتل نفسه، ولا يجوز للأطباء أن يعجلوا إنهاء حياته حتى لو اتفقوا على أن الشفاء من مرضه مستحيل، فما هو مستحيل في نظر البشر ليس مستحيلاً على الله
ويناشد د. هاشم الأطباء بعدم التورط في تعجيل إنهاء حياة مريض مهما كانت معاناته ومعاناة أسرته، ويقول «المريض أمانة في أعناقكم، تعاليم دينكم وقسم الطبيب، وميثاق الشرف الطبي، كل هذا يلزمكم أن تبذلوا ما تستطيعون من جهد للإبقاء على حياة مرضاكم، فلا تتعجلوا إنهاء حياة مريض مهما كانت خطورة مرضه، ومهما كانت تداعيات حالته الصحية على أسرته، ولا يجوز أن تفعلوا ذلك بدافع الشفقة والرحمة، فرحمة الله بعباده أكبر وأوسع من رحمة البشر، وقد تكون هناك حكمة من طول أو شدة مرض إنسان لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، لذلك لا يجوز شرعاً للإنسان المريض أن يقتل نفسه، ولا يجوز للأطباء أن يعجلوا إنهاء حياته حتى لو اتفقوا على أن الشفاء من مرضه مستحيل، فما هو مستحيل في نظر البشر ليس مستحيلاً على الله».
لا يوجد في الشرع نص يبيح إنهاء حياة مريض مهما اشتدت آلامه
د. محمد نبيل غنايم ، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة ، يضم صوته لصوت د. هاشم ويؤكد أن شريعة الإسلام العادلة لا يمكن أن تقر تصرفاً فيه إهدار لأهم حقوق الإنسان وهو حقه في الحياة ولو لمدة يوم واحد، ويوضح «لا يوجد في الشرع نص يبيح إنهاء حياة مريض مهما اشتدت آلامه، فكل تعاليم الإسلام ومبادئه ترفض إنهاء حياة الميؤوس من شفائهم، لأن ذلك عدوان على النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ويجب أن يثق المريض وأهله- ومعهم الأطباء- أن الله قادر على كل شيء، وهو وحده الشافي من كل الأمراض، والطب مجرد وسيلة، ولذلك لا ينبغي أن نعلق مصائر المرضى على اجتهادات الأطباء التي كثيراً ما تكون خاطئة».
ويضيف أستاذ الشريعة الإسلامية «لقد أمر الإسلام بالتداوي، والأخذ بكل أسباب العلاج، ويجب أن يؤمن المريض والطبيب على السواء بأن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، وبأن الله قادر على كل شيء، وعندما يتيقن المريض ذلك فسوف يسلم كل أمره له، والله سبحانه وتعالى هو القائل: «وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت»».
ويناشد د. غنايم الأطباء في عالمنا العربي والإسلامي عدم الانخداع بالشعارات الإنسانية الوافدة من هنا أو هناك، ويقول «على أطبائنا أن يبذلوا كل جهدهم، ويقول: عندما يقوم الطبيب بواجبه كاملاً تجاه مرضاه فسوف يستريح ضميره، ويرفض أي عدوان على حياة مريضه، فالأطباء ليسوا أرحم وأشفق على مرضاهم من خالقهم».
وعن حكم المرضى المصابين بأمراض خطيرة ومعدية مثل «كورونا» والإيدز والأورام وغيرها.. هل يمكن أن تنطبق عليهم أحكام خاصة في حالة طول مرضهم حرصاً على حياة المترددين عليهم من الجهاز الطبي والخدمات المعاونة في المستشفيات وحرصاً على معاناة المرضى أنفسهم؟
يجيب أستاذ الشريعة الإسلامية «لا توجد أحكام خاصة بهؤلاء المرضى، فكل الأمراض هناك طرق للوقاية منها يعرفها الأطباء والخدمات الطبية والمعاونة جيداً، ويجب أن يلتزموا بها حرصاً على حياتهم وحياة باقي المرضى الذين يترددون عليهم، ومن يفرط في حماية نفسه يقع عليه الإثم، وليس على المريض
ويضيف" هؤلاء المرضى لا يجوز التعجيل بموتهم من أجل منع ضررهم، لأن هذا قتل لروح لا يعرف مصيرها إلا الله عز وجل، وهناك وسائل كثيرة الآن لمنع الضرر ونقل العدوى أخف من قتلهم، من بينها العزل ومنع الاختلاط بالآخرين.. أما مرضى الأورام الذين تتدهور أحوالهم المرضية فلا يجوز أيضاً التعجيل بإنهاء حياتهم، بل ينبغي التعامل معهم طبياً بالمسكنات والعلاجات اللازمة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً».
ويؤكد أستاذ الشريعة الإسلامية أن الطب يتقدم كل يوم، ويطالعنا بالجديد في عالم الاكتشافات الطبية، فلماذا التورط في إزهاق روح لا يعرف مصير مستقبلها إلا خالقها سبحانه وتعالى، وهناك العديد من الأمراض التي كانت حتى وقت قريب مجهولة الأسباب ومستعصية التشخيص والعلاج، وأصبحت الآن من الأمراض العادية التي أمكن السيطرة عليها والتخلص منها.
وينتهي د. غنايم إلى تأكيد أن الإسلام دين رحمة وشفقة بالإنسان، ولو كان في قتل الميؤوس من علاجهم رحمة بهم، كما يروج بعض الأطباء، لأباح لنا الإسلام ذلك، بل علينا أن نؤمن بأن الرحمة والشفقة في التمسك بتعاليم ومبادئ ديننا.