لم يكن الغياب عابراً بالنسبة له. كان بقوة الحضور وأكثر.. يروي الدكتور مانع سعيد العتيبة، الشاعر والسياسي ورجل الأعمال، بعض ذكرياته مع والدته التي رحلت عام 2016 وأبكاه رحيلها.
فالطفل مانع العتيبة هو نفسه مانع العتيبة ابن السادسة والسبعين عاماً بحبه لأم نذرت حياتها لابنها الوحيد وتحدت كل الصعاب لتعليمه ولتكون له مكانة في بلده وكان لها ما أرادت، حيث تولى الكثير من المسؤوليات ومنها رئيس دائرة بترول أبوظبي عام 1969 وأصبح وزيراً للبترول والصناعة في أول وزارة لإمارة أبوظبي عام 1971 وتقلد منصبه الوزاري نفسه في أول وزارة اتحادية عام 1972 وكان المستشار الخاص لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 1990 حتى عام 2004.
الدكتور مانع سعيد العتيبة يقبل يد والدته
في عيد الأم وفي لقائه مع "كل الأسرة"، يستعيد الشاعر الدكتور مانع سعيد العتيبة بعض ملامح من حياته وذكرياته مع والدته، فيحدثنا عن امرأة استثنائية، عن حب سكنه وما زال، عن حب لم يحظ بحب مثله، حيث كتب لها الكثير من القصائد خلال حياتها وبعد رحيلها، ذلك الرحيل الذي آلمه وأوجعه حد البكاء، وهو الذي تستعصي عليه الدموع.
كتبت الكثير من القصائد لوالدتك، كيف تستعيد صورتها الآن وتسترجع الذكريات معها؟
لم تكن أمي امرأة عادية، كانت من جيل زمن البدايات جيل المصاعب والحياة القاسية، ولقد تحدت كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وأصرت أن يتسلح ابنها الوحيد مانع العتيبة بالعلم، ولما لم تكن في أبوظبي مدرسة يمكنها أن تعلم ذلك الطفل الذي أحبته أكثر من نفسها، أصرت على الوالد أن ننتقل إلى قطر ولم يكن عمري يزيد على ست سنوات.
وفي قطر عانت أمي الغربة عن الوطن، على الرغم من كرم الضيافة الذي لقيناه من أهلها الكرماء.
أصرت تلك الأم على تعليم طفلها، منحته كل شيء ونذرت نفسها من أجله وحركت داخله كل نقاط القوة ليكون شاعراً يرصد حياة الأجداد عبر وجه أمه ويركن إلى اللقاءات العابرة في أوقات الكدح والجد والظروف القاسية.
يحكي مسيرته مع التعليم وكيف حاكت له الوالدة ظلال النجاح بيديها المعطاءتين «نذرت أمي حياتها من أجلي، وكان أملها الوحيد أن أتعلم وأنجح في دراستي، ويكون لي شأن في بلدي، وعندما حققت لها ذلك، وتخرجت من جامعة بغداد بشهادة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية، قدمت لها تلك الشهادة هدية لها مقبلاً يديها ورأسها محققاً حلمها وما سعت إليه طوال حياتها، حتى عندما نلت الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة القاهرة، قمت بإهدائها تلك الشهادة وكم كانت فرحتها كبيرة بهذه الهدية التي ظل أثرها إلى آخر يوم في حياتها، وذلك عند وفاتها في الأول من يونيو 2016».
الرحيل الموجع: لم أحب أحداً في حياتي كما أحببت أمي!
كان رحيلها موجعاً ونزل خبر وفاتها كالصاعقة على الدكتور العتيبة الذي أدرك قدرة الغياب على القبض على مسام الفرح دواخلنا، فبكى «مثل طفل» فقد حنان الأم وشعر بأنه «الفقيد»، كما يقول في قصيدته الأولى لها بعد الرحيل.
فكيف يحاكي الدكتور مانع سعيد العتيبة الغياب بعد وفاة الوالدة رحمها الله؟
يستعيد ملامح ذاك اليوم المفجع "حدث ذلك الغياب للوالدة رحمها الله بعد أسبوعين من احتفالنا بعيد ميلادي السبعين، بعد عمر حافل بالعطاء ولقد أدركت بعد رحيلها أنها لم تعش إلا من أجلي.
وأسجل هنا أنني لم أحظ بحب أحد يشبه حب أمي لي، ولم أحب أحداً في حياتي كما أحببتها، لذلك عندما سمعت خبر وفاتها تلاشى البأس وهمت الدموع، على الرغم من أنني لم استسلم في حياتي كلها للحزن أو للدموع، وفي قصيدة الرثاء الأولى قلت:
لِمَاذَا اليَوْمَ عَنْ بَأْسِـي أَحِيـدُ
وأبْكِـي مِثْلَ طِفْــلٍ بَلْ أَزِيـــــدُ
أما ودَّعْتُ دَمْعِــي مِنْ سِنِينٍ
وَقُلْتُ : الدَّمْعُ ضَعْفٌ لا يُفيــدُ
وهلْ دمعٌ هَمى أم ذَوْبُ قلبي
وكيف يذوبُ في العين الحديدُ
إلَهِــي إنَّ إيمَـــانِــي كَبِيـــــرٌ
وَأنْتَ بِكُـلِّ مَا تَقْضِــي حَمِيـــدُ
ولَكِنِّــي فَقَــدْتُ اليَـــوْمَ أُمِّي
وَأشْعُـرُ بَعْــدَهَــا أنِّي الفَقِيــــدُ
وَأُمِّــي لَـمْ تَعِــشْ إلاَّ لِأَجْلِـي
أنَا فِي عُرْفِهَــا الهَـمُّ الوَحِيـــدُ
فَكَيْفَ أَعِيشُ دُونَ حَنَانِ أُمِّي
وَكَيْفَ يَطِيبُ لِي هَـذَا الوُجُــودُ
حملت قصيدة الرثاء الأولى بعض مشاعري، وعجزت عن الإحاطة بخضم مشاعر الصدمة لذلك الغياب الرهيب، فوجدت نفسي مندفعاً لتسجيل تفاصيل تجربة الغرق في بحر الدموع ومحيط الأحزان.
الغياب الأخير: نزلت بنفسي إلى حفرة القبر لأدفن أعز الناس إلى القلب
كان الموقف صعباً والدكتور مانع العتيبة ينزل إلى حفرة القبر ويهيل التراب فوق وجه والدته. الغياب هنا استقر حقيقة موجعة لتكون القصيدة التي تتماهى مع الموقف.
يروي د.مانع سعيد العتيبة "القصيدة الثانية كانت بعنوان "بعد الغياب" حيث نزلت بنفسي إلى حفرة القبر.. وقمت بتغطية وجه أمي بالرمال التي فوقها ولدت وفوقها عشت وتحتها دفنت أعز الناس إلى القلب.. وفي قلبها سأغوص ذات يوم لأسجل الغياب الأخير:
بكِلْتَا يَـــدَيَّ حمَلْتُ التُّــرَابَــا
بِبَـأْسٍ أُخَبِّئُ فِيـهِ اضْطِـرابَـا
وأَلْقَيْتُهُ فَـوْقَ وَجْهِـــكِ أُمِّــي
فزِدْتُ ابْتِعَادًا وَزِدْتِ اقْتِرَابَـا
أَهَــذِي نِهَــايَـةُ مِشْــوَارِ حُبٍّ
أَمِ الحُبُّ بَعْدَكِ أمْسَى سَرَابَـا
تَرَكْتُكِ فِي جَوْفِ قَبْرٍ وَسِرْتُ
وَحِيــدًا وَكِدْتُ أَشُقُّ الثِّيَــابَـا
غِيَــابُــكِ يَـا أُمُّ عَنِّـي رَهِيـبٌ
وَلِلْحُزْنِ يَفْتَحُ فِي القَلْبِ بَابَـا
د. مانع العتيبة عند قبر والدته
لم أفارق القبر وكأني أنتظر معجزة من السماء تعيدها لي
ويكمل حكايته مع الغياب :"حتى قصيدة «النصيح» التي خرجت عن المدرك والمحسوس، ودخلت في عالم الميتافيزيقا، لم تكن إلا نوعاً آخر من الرثاء، ومن تجسيد الحدث الذي عشته، وانصهرت فيه كل ذرة من ذرات الروح والجسد.
أكان النصيح حلماً من أحلام اليقظة أم رؤيا خارقة، أم أنها روح أمي هي التي تكلمت بلسان ذلك النصيح؟ فأنا لم أفارق القبر، بقيت وحدي جالساً إلى جانبه، وحل الظلام دون أن أشعر بمرور الوقت، وكأنني أنتظر معجزة من السماء تعيد أمي إلي فأحدثها عما فعل بي غيابها، وحتى الآن لا أستطيع أن أجيب عن السؤال: هل كان من رأيته من صنع الصدمة أم كان حقيقة وواقعاً؟
لَمْ أَسْتَطِعْ كَبْحَ الدُّمُـوعِ لَمَّا
أوْدَعْتُ فِي جَوْفِ الرِّمَالِ أُمَّـا
وعِنْدَمَا رَفَعْتُ رَأْسِي نَاظِرًا
حَــوْلِـي رَأيْتُ اللَّيْــلَ مُدْلَهِمَّـا
لَكِنَّــهُ أَتَى وَكَـانَ وَجْهُـــــهُ
نُورًا على كُلِّ المَكَــانِ عَمَّـــا
لِحْيَتُـهُ البَيْضَاءُ مِثْلُ ثَوْبِــهِ
وَقَـالَ لِي كَــلَامَــــهُ الـمُهِمَّــا
فماذا قال ذلك النصيح صاحب الوجه المضيء؟
كَانتْ لَكَ السَّفِينَةَ الَّتِي مَضَتْ
فاقْهَرْ وَحِيـدًا بَعْدَهَـا الخِضَمَّا
مَا عِشْتَ إلَّا بِالدُّعَاءِ فَهْيَ مَنْ
فُؤَادُهَـا بِدَمْعِهَـا اسْتَحَمَّــــا
كَــانَتْ تُنَـــادِي اللهَ كُـــلَّ لَيْلَــةٍ
يُنْجِيكَ مِنْ غَــمٍّ إذَا ألَـمَّــــا
وَلَمْ يَعُــدْ لَكَ بَـعْــدَ مَـــوْتِهَــــا
سِوَاكَ أَنْتَ فَالقَضَاءُ حُمَّـــا
تَابِعْ عَلَى دَرْبِ الهُدَى مَسِيرَةً
تَرَ الخَـــلَاصَ يَـا بُنَيَّ تَمَّــا
ثم اختفى ذلك النصيح فجأة كما جاء فجأة، ليبلغني تلك الرسالة الرهيبة التي كدت أشم في كلماتها عطر قلب أمي:
رِسَالَةٌ يَكَادُ مَنْ يَسْمَعُهَـــا
لِعِطْـــرِ قَلْبِ الأُمِّ أنْ يَشُمَّــا
فَمَنْ لَدَيْـهِ أمُّـهُ فلْيَنْتَبِــــهْ
كَيْ لَا تَكُونَ الذِّكْرَيَاتُ غَمَّا
اللهُ أوْصَــانَــا بِبِرِّ أمِّنـــا
فالحُـبُّ كلُّ الحُـبِّ كَانَ أُمَّـا
قصائدي إلى أمي بعد الغياب كانت تسجيلاً لمشاعر لم تنطفئ شعلتها حتى اليوم
لم تزل قسوة الغياب قائمة. يحاول الدكتور مانع سعيد العتيبة أن يستعيد حضور الوالدة عبر قصائده.
يقول «على الرغم من أنني وضعت ديواناً كاملاً لها بعنوان الغياب، إلا أنني ما زلت أجد صورتها أمامي فأناجيها وأطلب من الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليها بالفردوس الذي استحقته».
افتتاح مسجد أم مانع في مدينة فاس التاريخية
قصيدة «أمي» اختيرت في منهاج وزارة التربية والتعليم
ولكن الغياب لم يكن دافعاً للدكتور العتيبة ليترجم الحب لوالدته والدليل القصيدة الأجمل للوالدة والتي أدرجت ضمن مناهج وزارة التربية والتعليم، وهي الهدية التي قدمها لها ولم يزل أثرها لليوم.
يقول «هذه القصيدة نظمتها وأمي على قيد الحياة واختيرت في مناهج وزارة التربية والتعليم. هي قصيدة «أمي» نظمتها عام 1984 وأختار منها بعض الأبيات»:
الدَّهْـرُ بالبِشْرِ ابْتَسَــــمْ
وَالسَّعْدُ فِي وَجْهِي ارْتَسَـمْ
لَمَّــا رَأَيْتُــــــكِ وَانْجَلَـى
يَـا أُمُّ عَـنِّـي كُـــــلُّ هَــــــمّْ
أُمِّي نِـــدَاءُ مَحَبَّـــــــــةٍ
بَـــلْ إنَّ كُــلَّ الحُـــبِّ .. أُم
فَإِذَا كَتَبْتُ حُــرُوفَــــــهُ
فَـاضَ الضِّيَــاءُ مِنَ القَلَــمْ
الأُمُّ أَوَّلُ كِلْمَـــــــــــــةٍ
رُسِمَتْ عَلَى شَفَـةٍ وَفَـــــمْ
وَاللهُ كَـرَّمَ ذِكْــــرَهَــــا
بَيْــنَ القَبَــائِــلِ وَالأُمَـــــمْ
ضَحَّتْ لِأَجْلِي بِالهَنَــــا
وَتَحَمَّلَتْ عَنِّـــــــي الأَلَـــمْ
ذُقْتُ الغَفَـا وَعُـيُـونُهَــا
مِنْ حَمْـلِ هَمِّي لَمْ تَنَـــــمْ
هِيَ أَرْضَعَتْنِي حُبَّهَــــا
فَنَمَـا مَعِــي مُنْـذُ القِــــدَمْ
وَكَبُرْتُ لَكِـــنَّ الفُـــؤَادَ
عَنِ المَحَبَّـةِ مَا انْفَطَـــــمْ
أَحْبَبْتُ كُــــلَّ النَّـــــاسِ
حَتَّى مَنْ أَسَاءَ وَمَنْ نَقَـمْ
الحُـبُّ كَـانَ الجُـرْحَ فِي
قَلْبِــي وَبِالحُـبِّ الْتَــــــأَمْ
فَحَنَــــانُ أُمِّـي نِعْمَــــةً
بَلْ إِنَّـــهُ أَحْلَى النِّعَـــــــمْ
جَـادَتْ بِزَهْـرَةِ عُمْرِهَـا
مِنْ غَيْرِ ضِيقٍ أَوْ سَـــأَمْ
لَمْ تَنْتَظِــرْ مِنِّي الجَـزَاءَ
وَهَــــذِهِ أَسْمَى الشِّيَــــمْ
وَلِسَــانُهَــا مَـا قَـالَ : لَا
بَلْ قَالَ لِي دَوْماً : نَعَـــمْ
وَاللهِ مَـا عَـــــــزَّ الوَرَى
حَتَّى تُعَـــــزُّ وُتُحْتَــــرَمْ
أُمَّـــاهُ يَــرْعَـــــاكِ الّذِي
خَلَقَ البَرِيَّــةَ مِنْ عَــدَمْ
ارْضَـيْ عَلَــيَّ لِكَـيْ أَرَى
رُضْوَانَــهُ يَـا أُمُّ عَـــــمْ
لَوْ هَمْسَـــةٌ حَمَلَتْ رِضَى
أُمٍّ لأَسْمَعَــتِ الأَصَــــــمْ
وَرِضَــاكِ أُمِّــي مَطْلَبِـــي
إنْ فَـاتَنِـي حَـلَّ النَّــــدَمْ
فِي يَـوْمِ عِيـــدِكِ أَلْتَقِـــي
يَـا أُمُّ مَعَ أَسْمَى الشِّيَـمْ
فَإِلَيْــــــكِ مِنِّـــــــي وَرْدَةً
أُمَّــــاهُ مِـنْ لَحْــــمٍ وَدَمْ
قَلْبِــي الّــذِي عَلَّمْتِـــــــهِ
بِالأَمْسِ أَنْ يَرْعَى الذِّمَمْ
ماذا بعد الرحيل؟ وهل الحب لم يزل متوهجاً بعطايا للأمومة؟
الرحيل لم يخفف وهج الحب، "بعد رحيلها وتوسلاً إلى الله ليرحمها ويسكنها جنات النعيم، قمت ببناء أكبر مسجد يحمل اسمها في مدينة فاس، فلقد كانت أمي رحمها الله تقضي معظم وقتها في الصلاة والدعاء لي ولوطني، كما كانت تقضي عدة أشهر في العمرة والحج في مكة، وهذا المسجد الآن أحد معالم مدينة فاس التاريخية. رحمك الله يا أمي وجعل مثواك الجنة".