في أمسية بدا فيها الحرف العربي أكثر قرباً من القلب، تحوّلت «مكتبة محمد بن راشد» إلى مسرح للذاكرة والحنين، حيث اجتمع الصوت والكلمة في لقاء استثنائي مع الفنان مارسيل خليفة.
لم تكن «ألحان تنبض بالعربية» مجرّد جلسة حوارية، بل رحلة في وجدان اللغة، أعادت التذكير بأن العربية حين تُغنّى، تصبح أكثر حياة، وحين يُصغى إليها، تكشف وجوهها الأكثر إنسانية.
جاء الجمهور من أعمار وخلفيات مختلفة، لا ليستمع فحسب، بل ليشارك في تجربة ثقافية نابضة، اجتمع فيها الشعراء، والموسيقيون، والقرّاء، حول تجربة فنية اختارت منذ بداياتها أن تنحاز إلى الكلمة، وأن تجعل من القصيدة الفصحى قلباً نابضاً للحن، لا ظلاً له.
أدارت الجلسة الكاتبة ريم الكمالي بحسٍّ ثقافي رفيع، ففتحت نوافذ للحوار حول العلاقة العميقة بين الشعر والموسيقى، وحول قدرة الفن على حماية اللغة العربية من النسيان، ومنحها حضوراً معاصراً من دون أن تفقد جذورها. في هذا السياق، بدا مارسيل خليفة كما هو دائماً: موسيقياً يُصغي للنص قبل أن يعزف، ويمنح الكلمة حقّها الكامل في الظهور.
وعند التوقف أمام أغنية «أحنّ إلى خبز أمي»، خفَتَ الصوت قليلًا، وارتفعت المشاعر. تحدّث خليفة عن هذه القصيدة بوصفها الأقرب إلى روحه، لا لشهرتها، بل لأنها وُلدت من لحظة شخصية صادقة. اللحن، كما أوضح، لم يسعَ إلى الإبهار، بل إلى احتضان النص، فجاء التكرار الهادئ لكلمة «أمي» كنبض دائري يعكس الشوق والحنان، والذاكرة الأولى.
وقص مارسيل كواليس كتابة الشاعر محمود درويش لقصيدة «أحنّ إلى خبز أمي»: «عندما كتب قصيدة «أمي»، كان ذلك في السجن، على علبة كبريت، وهو يظنّ أنها أغنية خاصة موجّهة إلى أمّه وحدها. لم يكن يدرك، حينها، مدى الحب العميق الذي تكنّه له، فهي، كغيرها من الأمهات، كانت صامتة في مشاعرها، منشغلة بتربية أبنائها، وتحمّل أعباء الحياة. كانت تؤمن بأن دورها الأول هو أن تربّي أبناءها، ولو كان لديها عشرة أبناء لفعلت المستحيل من أجلهم. اليوم، ومع طفلين فقط، نشعر كم أصبح الأمر أصعب، مقارنة بزمنٍ كانت فيه التربية أكثر بساطة وقسوة، في آن واحد».
وتابع: «أثناء وجود محمود درويش في السجن، جاءت أمه لزيارته، حاملة معها سلّة مملوءة بالمأكولات الطيّبة، من قهوة وخبز، وأشياء أعدّتها بيدها، فشعر حينها بعمق حبّها وحنانها، فكانت القصيدة تعبيراً صادقاً عن تلك اللحظة الإنسانية الخاصة. وقد كُتبت في جوّ حميمي، قبل أن تتحول لاحقاً إلى عمل موسيقي، حتى إن محمود درويش أشار إلى أن قصيدة «أمي» كُتبت في السجن على علبة كبريت، وكانت في الأصل أغنية خاصة لا يقصد بها الجمهور».
أما «منتصب القامة أمشي»، فكانت محطة للحديث عن الكرامة، بوصفها قيمة جمالية وإنسانية. وأشار مارسيل خليفة إلى أنه اختار لهذا العمل مقام «الرست» لما يحمله من روح عربية أصيلة، وسعى في تلحينها إلى مرافقة الكلمة، لا الهيمنة عليها، فبدت الأغنية كأنها صوت كل فردٍ يبحث عن معنى الوقوف بثبات في زمن مضطرب.
وتحدّث خليفة عن بداياته مع تلحين القصائد، مؤكّداً أن الأمر لم يكن مشروعاً مدروساً، بل مغامرة نابعة من حب الشعر ودراسة الموسيقى، تحوّلت مع الوقت إلى مسار فني شكّل ملامح تجربته. كما استعاد علاقته بالشاعر محمود درويش، واصفاً إياها بصداقة، إنسانية وفنية، عميقة، أثمرت أعمالاً بقيت حيّة في الوجدان العربي، لأنها انطلقت من صدق التجربة، لا من حسابات الانتشار.
وفي حديثه عن التراث الخليجي، عبّر عن إعجابه بثرائه، الموسيقي والشعري، داعياً إلى توثيقه وإحيائه رقمياً، حتى لا يبقى حبيس الذاكرة، بل يتحوّل إلى مادة حيّة تصل إلى الأجيال الجديدة، بوصفه جزءاً أصيلاً من الهوية العربية المتنوعة.
وعن الذكاء الاصطناعي، شدّد على أن التقنية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تعوّض الحس الإنساني في الفن. فالأخطاء، كما قال، ليست عيباً، بل جزء من الجمال، ومن المسار الذي تتشكّل فيه اللغة والموسيقى، معاً، مؤكداً أن الإبداع الحقيقي يولد من التجربة الإنسانية، لا من دقة الآلة.
اختُتمت الأمسية بلحظات غنائية دافئة، شارك فيها الجمهور مارسيل خليفة أداء عدد من القصائد، منها «يطير الحمام»، و«ريتا والبندقية»، و«في البال أغنية»، و«إلى أمي» لمحمود درويش، و«إني اخترتك يا وطني» لعلي فودة، لتتحوّل القاعة إلى مساحة مشتركة للغناء والذاكرة، حيث امتزجت الأصوات، وتحوّل الشعر إلى فعلٍ جماعي.
بهذه الروح، تؤكد مكتبة محمد بن راشد أن الثقافة ليست حدثاً عابراً، بل تجربة تُعاش، وأن اللغة العربية، حين تجد من يُصغي إليها بصدق، قادرة على أن تُلهم، وتُمتع، وتبقى حيّة في الوجدان.