18 ديسمبر 2025

د. باسمة يونس تكتب: «فتاة النافذة» والوعي

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

مجلة كل الأسرة

مسلسل «فتاة النافذة» دراما تنطق بالواقع، وتدعو الإنسان إلى قراءة نفسه، وتلامس الوجدان الإنساني، متجاوزة حدود الترفيه إلى مساحة أعمق، تتقاطع فيها النفس البشرية مع التجارب الاجتماعية القاسية.

ولأنه يستند إلى قصة حقيقية، فهو يحمل صدقاً ينعكس في تفاصيل شخصية الفتاة المجبرة على الانصياع لحياة لا يمكن أن يتحمّلها الجميع، بينما تبدو للكثيرين مثالاً للنجاح، والاتزان، وحلم لا يمكن الوصول إليه بسهولة، ويحذّرنا من عواقب كثيرة لتصرفات وسلوكات نظنّها حماية، لكنها قد تكون سبباً في انهيارات إنسانية، يعلم الله ما ستؤدي إليه في المستقبل.

بطلة القصة أخفت في داخلها ندوباً عميقة لما فعلته بها حماية جدتها المبالغ فيها، لتكبر مضطربة بالقمع العاطفي، وانعدام الأمان، وهي قضية من القضايا، الاجتماعية والنفسية، المتغلغلة في المجتمعات، والمختفية وراء جدران بيوت تبدو عامرة بالمثالية والسعادة، بينما تنخر عظامها آلام نفسية أشدّ ألماً من الأمراض المعلنة.

ومن هنا تطرح هذه الدراما قضية اجتماعية ونفسية يندر طرحها بهذا العمق في المجال الفني، وتقدم الكثير من الصدمات النفسية، والعلاقات الأسرية المعقدة، والخلل التربوي الذي قد يرافق الإنسان حتى مراحل متقدمة من حياته.

ولا يتوقف المسلسل عند الجانب المأساوي للسرد، بل يقدم رؤية نقدية للبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها الشخصية، مسلّطاً الضوء على أثر التربية، غير السوية والقامعة، في تشكيل مصائر الأفراد، ومشيراً إلى أن كثيراً من السلوكات التي نراها في البالغين هي امتدادات مباشرة لأوجاع الطفولة.

كما يكشف العمل كيف يمكن للحرمان العاطفي، والتوقعات الصارمة التي تفرضها الأسر، أن تنتج شخصيات هشّة تميل إلى البحث عن الحب في أماكن خاطئة، أو الوقوع في علاقات غير متوازنة، ومن خلال هذا الطرح، يجعل المسلسل المشاهد يتساءل عن مدى مسؤولية الأسرة والمجتمع في صناعة الألم الإنساني، وفي الوقت نفسه يفتح نافذة على ضرورة الوعي بهذه القضايا، ودورها في بناء شخصية سليمة قادرة على التكيّف.

ويبرز العمل كذلك أهمية الوعي النفسي، إذ يقدم العلاج النفسي، ولكن ليس كملاذ أخير، بل كأداة ضرورية لفهم الذات، وتجاوز الصدمات المتراكمة. الأمر الجيد أن المسلسل يطرح فكرة أن الشفاء ممكن، وأن الإنسان قادر على إعادة بناء حياته حين يواجه الماضي بشجاعة، ويفهم جذور اضطراباته. وهذه الرسائل تجعل من مسلسل «فتاة النافذة»، وعلى غير المتوقع من العنوان الغامض، أكثر من مجرّد مسلسل، وتحوّله إلى خطاب إنساني يدعو إلى إعادة النظر في طرق التربية، وفي علاقاتنا العاطفية، وفي الصورة التي نرسمها، للآخرين ولأنفسنا.

إن أعمالاً كهذه لا تقدّم لمجرّد المتعة والترفيه، بل لتكون بمثابة مرآة تعكس واقعاً نعيشه، أو يعيشه من حولنا، وتسلط الضوء على صمت كثير من الضحايا الذين لا يجدون من يفهم ألمهم، وتدعو المجتمع إلى الحديث، بجرأة، عن الصحة النفسية، وعن حاجتنا إلى بيئة أسرية داعمة تحمي الفرد من الاضطرابات التي قد تلاحقه طوال العمر.

ولا بدّ من التأكيد على أهمية استخلاص العبرة من مثل هذه المسلسلات، فهي ليست في الترفيه، بل في تنبيهنا إلى أن الألم ليس قدراً، وأننا قادرون على كسر الدائرة التي تتكرر عبر الأجيال إذا تحلّينا بالوعي والمسؤولية.