16 ديسمبر 2025

«الفاية»... من صحراء الشارقة إلى ذاكرة العالم

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

في قلب الصحراء العربية، حيث تلتقي الجبال بالسهول، وتختزن الأرض أسرار آلاف السنين، يبرز موقع «الفاية» في إمارة الشارقة، بوصفه واحداً من أهم الشواهد الأثرية التي أعادت رسم خريطة تاريخ الإنسان.

فبين طبقاته الصخرية، ومشاهده الطبيعية الأحفورية، تتجلى قصة الوجود البشري المبكر خارج إفريقيا، بما تحمله من دلائل علمية غيّرت فهم العالم لمسارات الهجرة الأولى، وقدرة الإنسان على التكيّف والاستقرار في البيئات القاحلة. من هنا، تتجاوز أهمية «الفاية» حدود الجغرافيا المحلية، لتغدو جزءاً أصيلاً من السردية الإنسانية المشتركة، وركيزة أساسية في الجهود الدولية الرامية إلى صون التراث العالمي وتوثيق بدايات الحضارة البشرية.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

أقدم وجود خارج القارة الإفريقية

في هذا الإطار، يكشف عيسى يوسف، المدير العام لهيئة الشارقة للآثار، قيمة «الفاية» قائلاً: «لا تتوقف أهمية الموقع عند مجرد شواهد على الهجرة البشرية الأولى، بل يثبت أن هذا الوجود يعد الأقدم عالمياً في سياق الاستيطان البشري خارج القارة الإفريقية، ما يمنح «الفاية» مكانة فريدة في السردية العالمية لتاريخ الإنسان وتطوّره». ويبين «جميع الدراسات العلمية أكدت اعتماد الإنسان المبكر على الطريق الجنوبي لشبه الجزيرة العربية خلال الهجرات الأولى خارج إفريقيا، حيث شكلت المنطقة ممراً رئيسياً لحركة البشر، وانتشارهم لاحقاً إلى مختلف أنحاء العالم. والاكتشافات الأثرية في جبل الفاية تمثل أحد أبرز الأدلة على هذه المسارات، إذ كشفت الطبقات الأثرية المتعاقبة، التي تمتد زمنياً من نحو 210 آلاف عام، وحتى العصر الحجري الحديث، عن مجموعة غنية من الأدوات الحجرية، التي تظهر تشابهاً واضحاً مع الأدوات المكتشفة في شرق إفريقيا، ما يؤكد أن الجماعات البشرية التي استوطنت المنطقة قدمت من هناك حاملة معها تقنياتها وأساليبها في صناعة الأدوات».

ويكشف عيسى يوسف أهمية بعض اللقى «تحمل بعض المكتشفات الخاصة بالممارسات الجنائزية دلالات ثقافية وإنسانية، كما أن ارتباطها بالبيئة البحرية يشكل دليلاً واضحاً على حركة البشر بين المناطق، الداخلية والساحلية، وتنقلهم المستمر، ثم عودتهم إلى مناطق الاستيطان. كما شملت المكتشفات خرزاً مصنوعاً من عظام الأسماك والأصداف البحرية، إضافة إلى حبات لؤلؤ مثقوبة، ما يعكس وجود شبكات تواصل وتبادل، ووعي مبكر بالرمزية والزينة، إلى جانب متطلبات الحياة اليومية».

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

موقع استثنائي يجمع بين التاريخ والسجل الإنساني

فيما أكد الدكتور أسامة خليل، خبير التراث العالمي في هيئة الشارقة للآثار، أهمية موقع «الفاية»، لكونه من الشواهد الأثرية والبيئية التي توثق العلاقة العميقة بين الإنسان والبيئة عبر آلاف السنين، مضيفاً «العمل الجاري في الموقع يأتي ضمن إطار ملف إدراجه على قائمة التراث العالمي، ويشمل منطقة شاسعة تمتد على مساحة تقارب 30 ألف هكتار، تحيط بها منطقة عازلة، وأخرى للحماية تبلغ مساحتهما نحو 95 ألف هكتار، تتنوع تضاريسها بين البيئات الجبلية والصحراوية، وصولاً إلى أطراف صحراء الربع الخالي، إضافة إلى سهل المدام ومليحة الممتد بين جبل الفاية وجبل الحجرات».
ويشرح: «تمثل «الفاية» مشهداً طبيعياً صحراوياً فريداً نجح الإنسان المبكر في التكيف معه، والاستقرار فيه، على مدى فترة زمنية طويلة تمتد من نحو 210 آلاف عام، إلى 10 آلاف عام مضت. حيث تكشف الأدلة الأثرية الموثقة عن استيطان بشري متواصل على امتداد سلسلة جبل الفاية، التي تصل لنحو 20 كيلومتراً، وتضم قرابة 18 طبقة أثرية وصخرية تعكس مراحل متعدّدة من النشاط البشري، والتطور الثقافي. كما أن أهمية السلسلة الجبلية لا تتوقف عند بعدها الأثري، بل تشمل أيضاً قيمتها الجيولوجية، إذ تشكلت قبل نحو 93 مليون عام نتيجة تصادم الصفائح التكتونية، ما يجعل الموقع استثنائياً في جمعه بين التاريخ الطبيعي العميق، والسجل الإنساني المبكر».

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

35 ألف أداة حجرية

وفي ما يتعلق بالبحث العلمي، يوضح د. خليل أن الأدوات الحجرية تُعد المفتاح الأساسي لفهم تاريخ الاستيطان البشري في «الفاية»، مشيراً إلى أن التعاون، العلمي الدولي، بين الهيئة وجامعة أوكسفورد بروكس، في المملكة المتحدة، وجامعة توبنغن في ألمانيا، أسفر حتى اليوم عن نشر أكثر من 500 دراسة علمية محكمة «التحليلات شملت رواسب دقيقة من طبقات الأرض، ما أتاح إعادة بناء أنماط حياة الإنسان المبكر، إضافة إلى نتائج الدراسات التي أظهرت اعتماد الإنسان في تلك الفترات على الصيد، وهو ما أثبته اكتشاف نحو 35 ألف أداة حجرية تعكس تقدم مستوى من المهارة والتنظيم الذي تميز به البشر في تلك الحقبة».
يضيف «يمثل وادي الكهوف مرحلة مختلفة من تطور المجتمعات البشرية، حيث لوحظ انخفاض عدد الأدوات الحجرية المكتشفة مقارنة بالفترات الأقدم، بالتزامن مع بدايات استئناس الحيوان وممارسة الزراعة، ما يعكس تحولاً جوهرياً في نمط الحياة. كما بينت الاكتشافات أدلّة هامة مرتبطة بطقوس الدفن، من بينها توثيق نحو 550 قبراً في موقع البحيص 2، إضافة إلى بقايا عظمية في وادي الكهوف، ما يوفر فهماً أعمق للممارسات الجنائزية في العصر الحجري الحديث».

ويشير د. خليل إلى الدور المحوري الذي يلعبه مركز الزوار في مركز مليحة للآثار في تقديم الصورة الكاملة للموقع «من خلال المعروضات التفاعلية والوسائط البصرية، يتم تبسيط الاكتشافات العلمية، وتحويلها إلى تجربة معرفية قريبة من فهم الجمهور، كما تراعي البرامج التعليمية اختلاف مستويات المعرفة بين الزائر والسائح، وتشمل أنشطة وورشاً مخصصة للأطفال في الحديقة الجيولوجية والمركز، بما يسهم في بناء رابط معرفي وثقافي بين الأجيال الجديدة، والتراث الإنساني العميق الذي يجسده الموقع».

* تصوير: يوسف الأمير